(17) فِي النَّاسِ أَمْثِلَةٌ تَدُورُ حَيَاتُهَا * كَمَمَاتِهَا ومَمَاتُهَا كَحَيَاتِهَا
(أمثلة): جمع مِثَال، بمعنى أشباه، يشبهون الناس، لكنهم ليسوا كذلك. جاء في اللِّسان: «والمِثْل: الشِّبْه. يُقَالُ: مِثْلُ ومَثَلُ وشِبْهُ وشَبَهُ بِمَعْنىً وَاحِدٍ».
(تدور حياتها): دورانها بتغيُّرِها من وضع إلى وضع آخر، وهي أحداث الحياة وأحوالها وصورها.
(كمماتها): أي أن أحداث حياتهم وهي تتنقل بين حال وآخر، لا أثر فيها، إنْ سلباً وإنْ إيجاباً، لا خيراً ولا شراً، ولا فرق بينها وبين موتهم، ولذلك أصبحت شبيهة بمماتها.
قيل إن معنى البيت: هؤلاء الأشباه لا يفرحون بحياتهم ولا يغتمّون بمماتهم.
والحقيقة أن أمثال هؤلاء ليسوا بالقلة، وحياتهم هذه التي لا قيمة لها ولا أثر فيها، مجترَّة مكرَّرة، وليت تكرارها بما ينفع أو حتى يضرّ، ولكنه تكرار رتيب، تصل رتابته لدرجة تشبيهه بالموت.
وبلغ المتنبي مرحلة من ذمّ هؤلاء، حتى قال:
هِبْتُ النِّكَاحَ حِذَارَ نَسْلٍ مِثْلِهَا * حَتَّى وَفَرْتُ عَلَى النِّسَاءِ بَنَاتِهَا
يقول: خفت أن أتزوج، خشية أن يكون نسلي مثل هؤلاء، الذين لا أثر لهم في أنفسهم، ولا في غيرهم.

(18) ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقلِهِ * وأَخُو الجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
وَهذا البيت «من قلائد أبي الطّيب المتنبي»، كما قال أبو منصور الثعالبي.
ومعنى هذا البيت من القناعات الراسخة عند أبي الطيب، وكرَّره في شعره كثيراً، وما البيت السابق (17) ببعيد المعنى عن بيتنا، ومن أبيات المتنبي في الباب، قوله:
تَصْفُو الحَيَاةُ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ * عَمَّا مَضَى فِيهَا وَمَا يُتَوَقَّعُ
وله أيضاً:
أفاضِلُ النَّاسِ أغراضٌ لِذَا الزَّمَنِ * يَخلُو مِنَ الهَمِّ أَخْلَاهُمْ مِنَ الفِطَنِ
(ذُو العَقْلِ): العاقل.
(يَشْقَى): يتعب ويبتئس وتَعْسُرُ حالُه.
(الشَّقَاوة): خِلَافُ السَّعَادَةِ. وَرَجُلٌ شَقِيٌّ بَيِّنُ الشَّقَاءِ وَالشِّقْوَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَيُقَالُ إِن الْمُشَاقَاةَ: الْمُعَانَاةُ وَالْمُمَارَسَةُ. وَالْأَصْلُ في ذلك أنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْعَنَاءَ وَيَشْقَى بِهِ.
(أَخُو الجَهَالَة): الجاهل. الجَهْلُ: نَقِيْضُ العِلْمِ، جَهِلَ عليه، وجَهِلَ به، والْجَهَالَةُ المَصْدَرُ. (المحيط في اللغة).
واستخدامُ المتنبي لوصف الجاهل، بقوله: (أخو الجهالة)، فَعَلَه الشاعرُ عبد الله بن محمد بن أبي عيينة المهلبي، بقوله: 
سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي وَقْتِهِ * وَأَخُو الْجَهَالَةِ مُتْعَبٌ مَحْزُونُ
وفَعَلَ مثلهما، لكنه وصف العالِم بـ (أخو عِلمٍ)، الشاعر محمد بن عبدالأعلى بن كُناسة الأسدي، بقوله:
تَعَلَّمْ فَليسَ المَرْءُ يُخْلَقُ عَالِماً * وَليسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
ومعنى بيت المتنبي: أن العاقل يشقى بعقله حتى وهو في النعيم، لأنه يتفكر في ما ستؤول إليه الدنيا في تقلباتها، فيما الجاهل وهو يعيش في الشقاء ينعم لانعدامِ إحساسه بما هو فيه، وبُعدِه عن التفكير في الحوادث والمآلات.
وفي الباب أبيات كثيرة، وردت بالمعنى نفسه:
قال ابن المعتزّ: 
وَحَلاوَةُ الدُّنْيَا لِجَاهِلِهَا * وَمَرَارَةُ الدُّنْيَا لِمَنْ عَقَلَا
وقال البحتريّ: 
أَرَى الحِلْمَ بُؤْساً فِي المَعِيْشَةِ لِلفَتَى * وَلَا عَيْشَ إِلَّا مَا حَبَاكَ بِهِ الجَهْلُ
وقال أبو نصر بن نُباتة: 
مَنْ لِي بِعَيْشِ الأَغبِيَاءِ فَإِنَّهُ * لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ
قَالَ أَبُو الْفَتْح ابْن جني: هَذَا مثل قَوْلهم: مَا سُرَّ عَاقلٌ قَطُّ. 
وقال بعضهم إن المتنبي أخذ بيته، من قول أرسطو: العاقل لا يساكن شهوةَ الطّبْع، لعلمه بزوالها، والجاهلُ يظن أنها خالدةٌ له وهو باقٍ عليها، فهذا يشقى بعقله، وهذا ينعم بجهله.
قال أبو عبدالله: بيتُ المتنبي أوجزُ، وأبلغُ، وألطفُ، وأجملُ من قول أرسطو!