قُدمت عشرات القراءات لتفسير الفوز الحاسم الذي حققه دونالد ترامب في انتخابات الخامس من نوفمبر الجاري. والتفسير الأقوى والأرجح، في نظر كاتب هذه السطور، هو أن ترامب نجح في استمالة شريحة كبيرة من الأميركيين المنتمين إلى الطبقة العاملة من جميع الخلفيات، ولا سيما أولئك الذين يشعرون بالتهميش من قبل النخبة الأميركية، بما في ذلك قادة الحزب الديمقراطي ووسائل الإعلام الليبرالية.
استطلاعات الرأي تشير إلى أن مشاعر الغضب من إدارة بايدن ونائبة الرئيس كمالا هاريس انصبّت على إخفاقاتهم في الحد من الهجرة غير الشرعية وفي كبح جماح التضخم، وفي منع الفوضى في شوارع المدن وفي مواجهة الجريمة. والواقع أن الانتقادات الشخصية بحق ترامب، وما يقوله البعض عن استخفافه بالرعاية الصحية، وموقفه من حلفاء أميركا القدامى.. مثّلت عوامل مهمة أثّرت في التصويت ضده، غير أنها لم تكن كافية بالنسبة للمخاوف المتزايدة من أن قطاعات عديدة من المجتمع الأميركي بات يتم تجاهلها في أكثر دولة ازدهاراً في العالم.
في 18 أكتوبر، نشرت مجلة «الإيكونوميست» المؤثّرة تقريراً خاصاً عن الاقتصاد الأميركي وصفته بأنه «محسود العالم». وجاء في التقرير أن الاقتصاد الأميركي «تقدّم على الدول الغنية الأخرى ويتوقع أن يستمر كذلك». وعزا التقرير هذا النجاح إلى ارتفاع الإنتاجية وقوة سوق الأسهم والدولار. وتُظهر الإحصاءات مستوياتٍ قياسيةً من التوظيف المرتفع، وارتفاع الأجور، وقطاعات عالية التقنية تتصدر العالم. لكن المجلة تساءلت أيضاً: «هل تفشي التفاوت الاجتماعي هو ثمن النمو السريع الذي تحققه أميركا؟».
التفاوت الاجتماعي أصبح عاملاً رئيسياً في تحليل ما بعد الانتخابات الأميركية، وإحصاءات الاقتصاد الأميركي المتوهجة لا تعكس حقيقة أن العديد من الأميركيين يعيشون «من راتب إلى راتب». ووسائل الإعلام أخفقت في تصنيف التفاوت الاجتماعي في أميركا مع بقية الاقتصادات المتقدمة. ذلك أن متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة أقصر، وإحصائيات العنف المسلح في الحياة الأميركية مخيفة، ومعظم الناس لا يتمتعون بالأمان المالي الذي كان يتمتع به آباؤهم وأجدادهم. وفضلاً عن ذلك، فإن الشباب الذين لديهم وظائف جيدة لا يستطيعون تحمّل أقساط أسعار المساكن المرتفعة، بما في ذلك الشقق المستأجرة. والكثيرون يعتبرون الهجمات الثقافية على التاريخ الأميركي من قبل الجناح اليساري الراديكالي غير مقبولة.
ومن ناحية أخرى، فإن ترامب كان بارعاً في تغذية هذه المظالم وتأجيجها في انتخابات عامي 2016 و2024. وفي 2024 ساعدته أصوات الأميركيين من أصول لاتينية، وكذلك السود، والشباب من جميع الفئات، في العودة إلى البيت الأبيض.
ورغم أن الجمهوريين سيسيطرون الآن على البيت الأبيض والكونجرس بمجلسيه، مع أغلبية محافظة في المحكمة العليا، فإن قرارات ترامب المبكرة بشأن الترشيحات الرئيسية للخدمة في المناصب الحكومية الرئيسية اصطدمت بصعوبات كبيرة، لأن بعض اختياراته تواجه معارضةً داخل حزبه، وهناك جهود قوية لإيقافها. ولعل قراره الأكثر إثارةً للجدل هو اختياره لمنصب وزير العدل، والذي يُعد أهم منصب قانوني في الحكومة. ذلك أن «مات غايتز»، العضو المتهم إعلامياً بإثارة الشغب في مجلس النواب، ربما يكون أكثر زملائه في الكونجرس إثارة للجدل. وتولسي غابارد، المرشحة لمنصب مديرة الاستخبارات الوطنية، «ديمقراطية» سابقة تحولت إلى الحزب الجمهوري في عام 2024، ومعروفة بتبنيها للدعاية الروسية. وقد كان هذان المرشحان محل انتقادات شديدة من قبل صحيفة «وول ستريت جورنال»، وهي صحيفة محافظة مؤثّرة يملكها قطب الإعلام روبرت موردوخ.
وإذا سُحب هذان الاسمان، على الرغم من جهود ترامب لإبقائهما قيد الترشيح، فإن هذا الأخير سيكون في وضع أقوى بكثير لترشيح أسماء أخرى، قد تكون محل خلاف هي أيضاً، ولكن ليس بالدرجة ذاتها. غير أنه من غير الواضح إن كان ترامب سيرى أن من مصلحته تقديم هذه التنازلات. ويعتقد الصحفي بوب وودوارد، مفجِّر فضيحة «ووترغيت»، أن هذه الاختيارات محاولة من ترامب لإثارة منتقديه، بمن فيهم «الجمهوريون» في المؤسسة الحزبية.
*مدير «البرامج الاستراتيجية» بمركز ناشيونال إنترست - واشنطن