اخترت هذا العنوان عن قصد «نمط صعب ونمط مخيف»، إنه عنوان كتابٍ متخصص لمحمود شاكر يناقش فيه قضايا اللغة العربية، ولكنني سأستخدمه فضاء لمناقشة الوضع الإقليمي الحالي.
بالفعل العنوان يلخّص الموضوع، فالأزمة في الإقليم جدّ كبيرة، وطرق حلها وعرة، والأنفاق تتحكّم بالآفاق. لم تعد الأفكار الحوارية موضوع استقبال في المنطقة للأسف، وقد كرر هذا الرفض عبر التاريخ من قبل المتخاصمين. الموضوع أكبر مما نتصوّر، تقديرات المواقف تتحدث عن سنواتٍ من التأثّر بهذا التأزيم، ربما يعقبه تجدد العصبيات، وازدياد الضخّ الطائفي، وربما تعزيز حظوظ نشوبٍ حروبٍ أهليةٍ، أو نزاعاتٍ إقليميةٍ طويلة، لكن عوداً على ذي بدء، ماهو النمط السياسي الصعب، والآخر المخيف؟!
النمط الصعب أراه في عدم تفعيل طاقات الحلول، وتصعيب القبول بالمبادرات التي يمكنها تخفيف الأزمات الإنسانية على الأقل، الكل يعلم أن الأزمة الإنسانية أساسها الحرب والتهجير، وحين نتحدث عن التهجير، فإننا نأتي على التوتر، وربما التغيّر الديموغرافي، والأزمة الاجتماعية، نعلم أن الطوائف موجودة، وهي حقّ يحترم مادام ضمن قوانين الدولة وأسس السلم المجتمعي، ومن دون بثّه في المجال العام، ولكن ثمة فرقاً قانونياً بين الطائفة والطائفية التي تعني إبراز أنياب التمييز العقدي واحتقار الآخر، إن هذه الهجرات ربما تعزز الطائفية والصراع الديني والمذهبي.
من الصعب بالطبع التنبؤ بأمد الحرب؛ تقديرات بحثيّة وسياسية أكثرها تفاؤلاً تتوقع استمرارها أربعة أشهر، وثمة تقديراتٍ أخرى تتحدث عن سنتين وأكثر، وبكل الأحوال أظنّ أن الاستمرارية العالية في التوتر تجعل الحلول الدقيقة هي النمط المخيف، لنتأمل تجارب الحروب الأهلية الأوروبية كيف كانت، لنقرأ رباعية المؤرخ إريك هوبزباوم المذهلة التي تلخّص تاريخ قرنين من الزمان؛ كيف كانت الدماء في الطرقات، والهتافات التمييزية بين البروتستانت والكاثوليك، ولكن بآخر المطاف، وبعد فوات الأوان وخسارة ملايين الأنفس جلسوا على الطاولة، ورسموا اتفاقيات دقيقة مكتوبة بحذر، إنها التجربة الإنسانية التي تمحض نفسها، وتجدد من حيويتها، إن استمرار الحرب هو النمط المخيف، إنه لأمر مريع أن تعجز الأطراف عن الوصول إلى حل في ظلّ تطوّر الدنيا والأفكار.
إن علم التفاوض تطوّر كثيراً، وإن كنت لست ملماً به، ولكنني أقرأ بعض المراجع، إنه مجال شاسع ومتطوّر يكبر ويتغيّر وتبوّب مع تطوّر أزمات الإنسان، إنه علم يكبر مثل الناس ولكنه لا يشيخ. معظم الدهاة السياسيين في العالم كانوا مدينين لمبادئ التفاوض، وعلى رأسهم هنري كيسينجر الذي كسر التوقعات وزار الصين، وقد ألّف كتاباً كاملاً عن هذه الحكاية التي أذهلت العالم. ما من مناصٍ من الحلول الواقعية التي تتعامل مع الواقع بوصفه معادلة رياضية وأنها مسألة تُدرس، ومن ثم تقود إلى رقمٍ معيّن، وحل واحد صارم.
الخلاصة؛ إن عاتيات الرياح هذه بكل صرْصرها ساهمت في إِشعال الجمر من تحت الرماد، وصار لها ضرامٌ، بل ثبّطت من عزيمة التنمية في المنطقة التي يقودها الزعماء الحكماء، ونشرت تشاؤماً، لكنني متفاؤل أن بعد هذا المخاض مايمكن البناء عليه، وأن النمط المخيف لن يطول، بل سندخل إلى النمط الصعب، ثم إلى انفراجة عليا، ولكن ثمن الانفراج سيكون مرعباً للأسف.
*كاتب سعودي