في خضم التحذيرات والقلق بشأن الانتخابات الرئاسية الأميركية هذا العام، يبدو أن هناك مكاناً واحداً هادئاً: وول ستريت.
ظلت سوق الأوراق المالية نشطة حتى في سباق بين مرشحين مختلفين تماماً ومن دون وضوح حول مَن سيفوز. ويتوقع الكثيرون أن ترتفع الأسهم بحلول نهاية العام. صحيح أن نائبة الرئيس كامالا هاريس قد ترفع الضرائب، وقد يؤدي فوز الرئيس السابق دونالد ترامب إلى زيادة العجز. لكن التاريخ يشير إلى أن الانتخابات لا تهم سوق الأوراق المالية كثيراً، خاصة إذا أسفرت عن سيطرة حزبية منقسمة بين الكونجرس والبيت الأبيض.
مع اقتراب يوم الانتخابات، ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة مئوية مزدوجة خلال العام. لكن هناك عقبة في هذا الجو من الهدوء في السوق: مقترحات ترامب بشأن التعريفات الجمركية. فهي تشكل انحرافاً جذرياً عن عقود من السياسة الأميركية الحزبية، وتهدد برفع الأسعار للمستهلكين، وبزيادة التضخم، وبإبطاء النمو. ويحذر الحزبان من أن التعريفات قد تشعل حرباً تجاريةً ذات تداعيات خطيرة وغير متوقعة.
وقال لاري سامرز، وزير الخزانة أثناء إدارة كلينتون، لقناة «بلومبيرج» التلفزيونية في يونيو الماضي: «هذه وصفة لأكبر حالات الركود التضخمي». وقالت صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل أسبوعين إن «أجندة التعريفات الجمركية التي يتبناها ترامب هي بطاقة معادية للنمو وتشكل خطراً اقتصادياً كبيراً في فترة ولايته الثانية».
المشكلة ليست أن وول ستريت لا تدرك التهديد، فعدد قليل جداً من المحللين يصدقون خطاب ترامب بأن التعريفات الجمركية من شأنها أن تعزز النمو. لكن من الصعب تحديد مدى الضرر الذي قد تسببه التعريفات الجمركية.
هل ترامب جاد في فرض التعريفات الجمركية، حتى على واردات حلفاء الولايات المتحدة؟ وماذا يحدث إذا رفضوا؟ هل سيرفع ترامب الرسوم الجمركية التجارية أكثر، مما قد يؤدي إلى إشعال حرب تجارية متبادلة، والتي يشير التاريخ إلى أنها تنتهي دائماً بشكل سيئ للجميع؟
يقول وارن ماروياما، المستشار القانوني في شركة «هوجان لوفيلز» والمستشار العام السابق لمكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش: «لا أحد يفوز في الحروب التجارية. تميل الحروب التجارية إلى أن تكون قبيحة للغاية. ويتضرر الناس منها جميعاً».
بعض قطاعات وول ستريت لديها مخاوف، وخاصة تجّار السندات الذين يخشون أن يؤدي ارتفاع التضخم المتوقع في عهد ترامب إلى رفع أسعار الفائدة. ومن شأن ارتفاع الأسعار أن يخفض قيمَ السندات. لكن التفاؤل لا يزال سائداً بشكل عام، بسبب اعتبارات مختلفة، أحدها الأمل في أن تعوض أجزاء أخرى من أجندة ترامب، وخاصة إلغاء القيود التنظيمية وخفض الضرائب، أيَّ عواقب سلبية ناجمة عن التعريفات الجمركية.
وهناك اعتبار آخر هو تاريخ السوق، فقد ارتفعت الأسهم في جميع سنوات الانتخابات الرئاسية ما عدا أربع سنوات منذ عام 1928، كما يشير صندوق «فيرست تراست بورتفوليوز». وفي تلك السنوات الأربع، 1932 (الكساد الكبير)، و1940 (الحرب العالمية الثانية)، و2000 (انفجار فقاعة الدوت كوم)، و2008 (الأزمة المالية العالمية).. كان الاقتصاد والحرب هما الأكثر تأثيراً على معنويات المستثمرين أكثر من السياسات الاقتصادية للمرشحين.
وخلص بنك «أوف أميركا» للأوراق المالية في تحليله لتأثيرات الانتخابات على الأسواق، في يوليو الماضي، إلى أن «الشركات الأميركية عالمية، والسياسة الأميركية ليست سوى جزء من العوامل التي تؤثر على الشركات الأميركية.. وحتى التغييرات السياسية الكبرى مثل معدلات الضرائب على الشركات والتعريفات الجمركية تميل إلى المنافسة بمرور الوقت». وهذا العام، يبدو أن أرباح الشركات ستتسارع. وقد دفعت وول ستريت، بتركيزها المعتاد على الأسهم، الأسواقَ إلى مستويات قياسية جديدة في الأشهر الأخيرة.
ويأمل آخرون أن يتحرك ترامب ببطء لتنفيذ سياسته التجارية أو أن يقوم الكونجرس أو المحاكم بعرقلة تحركاته. لكن إحدى شركات التداول أفادت بأن روبرت لايتهايزر، الممثل التجاري الأميركي والمستشار المقرب لترامب في التجارة، يخبر مديري الأموال بأن إدارة ترامب الثانية ستتحرك بسرعة لتنفيذ خططه الشاملة للتعريفات الجمركية. أما بالنسبة للكونجرس أو المحاكم التي تتدخل، فقد أعطى الكونجرس على مر السنين الرؤساءَ سلطةً واسعةً للتصرف بشكل أحادي في حالات الطوارئ، وأعطى الكونجرس الرؤساء حرية واسعة في الشؤون الخارجية.
أمل آخر هو أن حب ترامب المعلن للتعريفات («أجمل كلمة في العالم»، كما قال في شيكاغو قبل أسبوعين) مجرد تكتيك تفاوضي. ويشير مؤيدوه إلى أنه فرض تعريفات على الصلب والألمنيوم في عام 2018 وهدد بفرض رسوم على واردات السيارات من أجل الحصول على تنازلات من كندا والمكسيك في تفاوضه الناجح على اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك (USMCA). وقد يكون الآن يفعل الشيء نفسه مع أوروبا جزئياً لخلق جبهة موحدة ضد الصين وروسيا، كما كتبت «نادية شادلو»، الزميلة البارزة في معهد هدسون المحافظ ونائب مستشار الأمن القومي للاستراتيجية في إدارة ترامب. وتقول نادية إنه إذا استطاعت أوروبا أن تتوقف عن النظر إلى ترامب باعتباره عدواً، «فإن الشراكة المؤيدة للنمو والحرية ممكنة». ولكن سيكون من الصعب القيام بذلك عندما يهدد ترامب بفرض رسوم جمركية شاملة تتراوح بين 10% و20% على جميع الواردات، بما فيها تلك القادمة من أوروبا. إن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تفرض دول أخرى تعريفاتٍ جمركيةً على الواردات الأميركية. يقول مارك زاندي، كبير خبراء الاقتصاد في موديز أناليتيكس: «إذا حصل على ما يقول إنه يريده بالضبط، فسترى رداً انتقامياً».
وتعتمد التداعيات على مدى الرد الانتقامي. وتقدر مؤسسة الضرائب أن التأثير الصافي للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب من شأنه أن يخفض النمو طويل الأجل للناتج المحلي الإجمالي الأميركي بنسبة 1.3% وأن يخلق مليون وظيفة أقل من الوضع الراهن. وإذا ردت الدول الأجنبية، فإن الناتج المحلي الإجمالي سيتباطأ بنسبة 0.4% أخرى مع خسارة 362 ألف وظيفة إضافية. وإذا رفع الرئيس السابق الرهان بفرض المزيد من التعريفات الجمركية الشاملة، فمن الصعب أن نحدد حجم الضرر الإضافي الذي قد يلحق بالاقتصاد الأميركي.
إن هذا الغموض ربما يشكل أكبر معضلة، فهو يدفع المستهلكين إلى كبح الإنفاق والشركات إلى خفض الاستثمارات، مما يؤدي إلى إبطاء النمو.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»