مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، والتدمير الممنهج لاقتصاده، والذي شمل مختلف القطاعات في معظم الأراضي اللبنانية، رغم الدعوات الدولية لوقف لإطلاق النار، وفي ظل أكبر عملية نزوح يتعرض لها اللبنانيون منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، وتقدر بأكثر من مليون ونصف مليون نازح منذ سبتمبر الماضي، فإن الأضرار المالية جراء قصف المباني وتدميرها تتجاوز المليار دولار شهرياً. لقد سجل الاقتصاد اللبناني، وفق تقرير البنك الدولي، تراجعاً حاداً بلغ 34 في المئة خلال أزمته المالية التي بدأت عام 2019.

وبعدما كان متوقعاً أن يتقلص الانكماش الاقتصادي في العام الماضي، جاءت الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان فحالت بتأثيرها السلبي دون ذلك. واستمر هذا التأثير طوال العام الحالي، حيث توقع البنك الدولي أن يتفاقم الانكماش. ويتوقع خبراء لبنانيون أن يسجل الانكماش نسبة 5 في المئة، في حال استمرت الحرب حتى نهاية العام. واللافت أن تقرير البنك سلّط الضوءَ على الواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه لبنان، حيث بات أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، إذ ارتفع عدد الفقراء ثلاثة أضعاف، بسبب انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع معدلات التضخم التي جعلت تكاليفَ المعيشة لا تُحتمل، خصوصاً مع ارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 40 في المئة، مقارنةً بـ11.4 في المئة خلال الفترة التي سبقت الأزمة.

وأدى الانكماش الاقتصادي إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من نصف ما كان عليه، فيما ارتفعت أسعار السلع الأساسية نتيجة التضخم المتسارع. وفي ظل هذه الظروف، يجد الشعبُ اللبناني نفسَه أمام تحديات غير مسبوقة، تهدد استقرار المجتمع وتزيد من معاناة الفئات الأضعف والأكثر هشاشة. وفي ظل القصف الإسرائيلي المكثف لمناطق واسعة، والتدمير الممنهج لمؤسسات صناعية، وأسواق تجارية، ومرافق اقتصادية حيوية، يواجه لبنان تحدياتٍ ماليةً ونقديةً مستجدة، انعكست سلباً على ميزانية البنك المركزي الذي شهد، لأول مرة، منذ بدء الحرب، هبوطاً وازناً في قيمة احتياطاته من العملات الأجنبية في النصف الأول من أكتوبر الحالي، وبقيمة ناهزت 344 مليون دولار، إلى 10.5 مليار دولار.

وكذلك تراجعت ودائع القطاع العام لدى «المركزي» بنحو 61 مليون دولار، لتبلغ 5.91 مليار دولار، مع العلم بأن هذه الودائع سبق أن سجلت ارتفاعاً بقيمة 198 مليون دولار خلال النصف الثاني من سبتمبر الماضي، وأكثر من 1.6 مليار دولار من بداية العام الحالي.

لكن رغم هذه التطورات السلبية، بدأ المستثمرون في الخارج يترقبون مؤشراتٍ إيجابيةً لمرحلة ما بعد الحرب، وهم يراهنون على نجاح المساعي الدولية لتحقيق تسويات تحدد مستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، مما أدى إلى الإقبال على شراء سندات «اليوروبوند» اللبنانية، وارتفاع قيمة السند من 6.5 سنت إلى 8.75 سنت. وساهم في هذا المؤشر الإيجابي إقدامُ بعض المؤسسات الدولية على تفسير هذا الإقبال بأنه يعود إلى ارتفاع احتمالات توقيع لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي يشمل إصلاحات مالية وإعادة هيكلة الديون المستحقة، ومنها سندات «اليوروبوند» البالغة قيمتها الاسمية نحو 40 مليار دولار مع الفوائد. ومن المرتقب أن يتم ذلك قبل التاسع من مارس المقبل، أي مع انتهاء مدة خمس سنوات على توقف الدولة اللبنانية عن الدفع، حيث يحق للدائنين مقاضاتها أمام محاكم نيويورك ومطالبتها بدفع الديون. *كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية