يا تُرى كيف يكون حالُ عالمنا إذا افترضنا أن الصراعات الإقليمية والدولية، والداخلية أيضاً، قلّت، وأن القدرة على حلها سلمياً ازدادت؟ وهل يمكنُ تصور مدى التحسن الذي سيحدثُ في حياة البشر في كل مكانٍ إذا تنامت علاقاتُ التعاون والاعتماد المتبادل في مختلف المجالات؟
ولنأخذ مثلاً مجال مواجهة الكوارث الطبيعية التي تزدادُ كماً ونوعاً، وتتضاعفُ أخطارهُا نتيجة تغير المناخ، وتتسببُ في أحداثٍ مدمرةٍ أكثر تواتراً وكثافة. قبل أيامٍ ضرب إعصاران متتابعان (هيلين وميلتون) جنوب شرق الولايات المتحدة، وأحدث الأولُ منهما خسائر هائلةً في 6 ولايات بينها فلوريدا التي تركز الثاني (ميلتون) فيها، إلى جانب مناطق في المكسيك، حيث تضاعفت الأضرار المترتبة على إعصار «جونا» الذي كان قد ضربها في الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضي.
وليست الأعاصيرُ الثلاثةُ هذه إلا حلقةً في سلسلة كوارثٍ طبيعيةٍ مستمرة منذ مطلع العام الجاري، حيث تُفيدُ التقديراتُ بأن خسائرها تفوقُ ما شهدته الأعوام السابقة. فلم يكد البشر يحتفلون برأس السنة الجديدة حتى بدأت الكوارث بزلزالٍ رهيبٍ قوته 7.5 درجة ضرب اليابان في اليوم الأول من العام. ولم يمض شهرٌ واحدٌ دون حدوث كارثةٍ طبيعية أو أكثر، هنا أوهناك، فيما العالم مشغولٌ بصراعات متفاوتة الحدة، وبحربين مدمرتين في كل من أوكرانيا وقطاع غزة، والموارد المُخصصةُ لزيادة الإنفاق العسكري تبلغُ مستوياتٍ جنونيةً تفوقُ متوسطاتُها بكثيرٍ الحاجات الضرورية لحماية الأمن القومي للدول.
وحسب تقدير شركة «ميونتج ري» لإعادة التأمين، فإن خسائر الكوارث الطبيعية خلال النصف الأول من العام الجاري فاقت الفترةَ مثلها في أي من السنوات الثلاثين السابقة، كما أنها تجاوزت مائة مليار دولار في سبتمبر الماضي، فضلاً عن فقدان الأرواح التي لا تُقدرُ بأثمانٍ بطبيعة الحال، إلى جانب معاناة النزوح المترتب على معظم الكوارث الطبيعية، فيما أكثر الناس يتخيلون أنه لا أحد ينزحُ إلا في قطاع غزة ولبنان، وغيرهما من مناطق الحروب. يحدثُ ذلك في الوقت الذي ما يزالُ فيه نموُ الاقتصاد العالمي بطيئاً لا يتجاوز نسبة 2.5% سنوياً في المتوسط العام، إذ ما إن انتهت جائحة «كوفيد-19» حتى بدأت حربُ أوكرانيا، وتلتها حربُ غزة التي امتدت إلى لبنان حاملةً نُذرَ مواجهة إقليمية، فضلاً عن صراعاتٍ عدة متنوعةٍ، بعضُها مسلحٌ في أنحاء أخرى من العالم. ويكفي قليلٌ مما يُنفقُ في الحروب والصراعات القائمة لابتكار وسائل جديدة لتقليل خسائر الكوارث الطبيعية.
إن في الإمكان مثلاً تطويرُ أنظمة الإنذار المبكر والمراقبة والتنبؤ، وابتكار أجيالٍ جديدةٍ منها أكثر فاعلية، وإيجاد نظم إيواءٍ على مستوى متقدمٍ من الجاهزية والسرعة، وتحسين النظم الصحية لتستطيع الصمود في مواجهة الكوارث، وتوسيع نظم الدعم الاجتماعي وزيادة مرونتها وقابليتها للتكيف والاستجابة للظروف الطارئة، فضلاً عن تنظيم عمليات الصيانة المستمرة للبنيات التحتية.
غير أن ما يحدثُ بكل أسفٍ هو أن غضبَ بعض البشر على بعضِهم الآخر يزدادُ في غياب أو ضعف قيم قبول الآخر والتسامح والحل السلمي، في الوقت الذي يشتدُ فيه ثوران الطبيعة وينال ضرره الجميع يوماً بعد يوم.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية