الكلام كثير هذه الأيام عن تغيير الشرق الأوسط كنتيجة للحرب على غزة، وما تبعها من حرب على لبنان، وما يمكن أن يلحق بهما من تداعيات قد تحدث أو لا تحدث في المنطقة. ومنذ بداية هاتين الحربين كانت إسرائيل هي التي بادرت إلى طرح ذلك التغيير باعتباره «مشروعها» وتسعى إلى تطبيقه بالحرب مهما تطلّبت من وقت وموارد وتكاليف. وما لبثت الولايات المتحدة أن تلقفت العنوانَ وبنت عليه الإدارةُ ما سمّتها «خطط اليوم التالي للحرب»، وما يزال النقاش دائراً من دون خرائط طريق واضحة ومكشوفة.
وفي هذا السياق صدرت آراء وأصوات إقليمية بنبرات متفاوتة، إما معبّرةً عن اعتراض واستياء أو مستدرجةً عروضاً لإشراكها في أي ترتيبات يجري إعدادها. ومن الواضح الآن أن الإطالة المفتعلة للحرب بشقيها، وبأهدافها غير الواقعية، أصبحت جزءاً من التهيئة لتحوّلات في المنطقة، خصوصاً مع بلوغ الحرب شفير مواجهة بين إيران وإسرائيل، مع حصول الأخيرة على دعم مباشر من الولايات المتحدة رغم تأكيدها أنها لا تريد هذه المواجهة.
ومع اقتناع كثير من الخبراء والمراقبين بأن «تغييراً» سيحصل، فإنهم غير متفقين على تحديد ملامحه، ولا يرون أن ظروفه نضجت، ولا يجدون أن المفاهيم التي يُفترض أن يستند إليها قد تبلورت. كما أن هذا «التغيير» المزعوم يثير من الأسئلة والشكوك أكثر مما يَعد بسلام أو استقرار، أي أن حلقات كثيرة فيه ما تزال مفقودة. ولذا فإن مطلباً كوقف إطلاق النار أو التهدئة أو تجميد الصراع ليس كافياً، حتى لو اتُّفق عليه، نظراً إلى أن استراتيجيات الحروب المفتوحة ستبقى هي السائدة.
إذا لم يقترن إنهاء الحرب هنا وهناك بمبادرات جاهزة وأكيدة للتعافي وإعادة الإعمار، فإن إبقاء الأوضاع الإنسانية متدهورة سيشكل دعوةً إلى الاستثمار في البؤس لإعادة إنتاج التطرّف. كما أن اعتبار «التغيير» مجرد مغالبة عسكرية على النفوذ بين قوى دولية وإقليمية يمكن أن تفضي مثلاً إلى مكافأة إسرائيل بتثبيت احتلالها للأراضي الفلسطينية، فهذا سيعني إقصاءً للعدل لمصلحة الظلم المدجج بأحدث الأسلحة والتكنولوجيات، وبالتالي فإنه لا ينهي الصراعات أياً تكن أطرافها.
قبل أي حديث عن «التغيير» ينبغي أن تُظهر القوى المعنيّة، دولية وإقليمية، أنها تغيّرت ولم تعد تنظر إلى المنطقة وشعوبها على أنها مجرد ساحات دائمة للنفوذ والصراع. والأهمّ أن عليها أن تتذكر أن المنطقة المراد تغييرها هي عربية أولاً وأخيراً، وأنها تغيّرت ولا تريد حروباً، وأصبح لديها مفهومها الخاص للتعايش مع جوارها ومحيطها. ثمة مراجعة مطلوبة وضرورية لدى الدول المتنافسة على السيطرة، لأن حروبها لم تأتِ إلا بالدمار والخراب، ولذا فإن أي تغيير منشود يُفترض أن تكون فيه الأدوار والأهداف والوسائل محددة ومبرّرة. في المقابل، هناك إصلاحات مطلوبة عربياً، وقد أصبح أبرزها أخيراً ما اختصره معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، بـ«ضرورة استعادة مفهوم الدولة الوطنية كحلٍّ وحيد لمواجهة التحدّيات الأمنية التي تهدّد المنطقة العربية»، موضحاً أن «زمن الميليشيات كلّف العرب كثيراً».
وبطبيعة الحال فإن ظاهرة الميليشيات والتنظيمات الإرهابية لم تكن يوماً قادرة على أن تكون بديلاً عن الدول والجيوش الوطنية، لكن قوى كثيرة استخدمتها في ما هي مؤهلة له: التخريب. من هنا فإن الاستعداد لـ«التغيير» بناء على الخراب، وعلى قاعدة أن هناك منتصرين ومهزومين، ينذر بنتائج لا يمكن أن تؤسس أي استقرار. أما «التغيير» من أجل السلام فلا بدّ أنه يتطلّب مشاريع سلام وإعمار وتنمية وتطوير.

* كاتب ومحلل سياسي - لندن