في الفترة التي تسبق الانتخابات الأميركية في نوفمبر المقبل، نشهد إنفاقاً ضخماً من «الأموال السوداء» (المال الذي يتم الحصول عليه من خلال أي نشاط غير قانوني مخالف لقوانين ولوائح البلاد) في حملة تضليل تهدف إلى تثبيط تصويت الناخبين الأميركيين العرب في ميتشيجان والناخبين اليهود الأميركيين في بنسلفانيا.
خلال الدورات الانتخابية الثلاث الماضية، رأينا «الأموال السوداء» تلعب دوراً متزايدَ الأهمية في الانتخابات الأميركية. ويشير مصطلح «الأموال السوداء» إلى النفقات التي تنفقها المجموعات التي تعمل بشكل مستقل عن الحملات الرسمية، والتي لا يَلزم الإبلاغ عن مصادر تمويلها. كما شهدنا حملات تضليل من قبل، وهي جهود منظمة تهدف إلى استخدام ادعاءات خادعة أو مضللة أو مبالغ فيها لتحقيق مكاسب سياسية.
في عام 2000، قامت مجموعة من أصحاب الأموال السوداء بمحاولة مماثلة لتعطيل حملة بيرني ساندرز الرئاسية من خلال شراء إعلانات تلفزيونية كبيرة تدعي أنه كان كبيراً في السن (رغم أن المرشح المنافس كان في نفس العمر تقريباً)، أو أنه كان راديكالياً للغاية للفوز (على الرغم من أنه يتفوق على المرشح «الجمهوري» المتوقع بهامش أكبر من أي «ديمقراطي» آخر). ومما جعل هذا الجهد أكثر تضليلا هو أن المجموعة التي كانت ترعى تلك الإعلانات كانت الأغلبية «الديمقراطية» الموالية لإسرائيل. لقد أرادوا هزيمة ساندرز لأنهم لم يثقوا في موقفه الأكثر توازناً تجاه الشرق الأوسط. لكنهم علموا أن هذه الحجة لن تقنع الناخبين الديمقراطيين، لذا لم يذكروا إسرائيل في إعلاناتهم.. وهو مثال واضح على استخدام التضليل والمعلومات المغلوطة لتحقيق أهداف سياسية.
لقد شجع نجاحُ هذا الجهد المزيدَ من مجموعات الأموال السوداء المؤيدة لإسرائيل على الانضمام إلى المعركة في عامي 2022 و2024، حيث أنفقت أكثر من 100 مليون دولار في أكثر من 12 سباقاً للكونجرس. ومرة أخرى، قاموا بالترويج لمزاعم مضللة أو مبالغ فيها تشكك في شخصيات أو قدرات القيادات المرشحة الذين عارضوهم دون أن يذكروا أبداً أن هدفهم كان هزيمةَ أولئك الذين اعتبروهم غير مؤيدين لإسرائيل بما فيه الكفاية.
ما نشهده في هذه الانتخابات هو المزيد من حملات التضليل بأموال سوداء، لكن مع لمسة خادعة بارعة. تنفق مجموعة مؤيدة لدونالد ترامب عشرات الملايين من الدولارات لاستهداف الناخبين الأميركيين العرب واليهود الأميركيين في ولايتين متأرجحتين، هما ميتشيجان وبنسلفانيا، عبر رسائل متناقضة مصممة لثنيهم عن التصويت للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس. ويشمل هذا الجهد البريدَ المباشرَ والإعلانات الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي مثل «إكس» (تويتر سابقاً)، ويوتيوب، وسناب شات، وإنستجرام، وفيسبوك.
في كل يوم تقريباً، يتلقى الناخبون الأميركيون من أصل عربي في ميتشيجان، في الدوائر الانتخابية ذات التركيز العالي، رسائلَ بريديةً لامعةً تحمل عناوين مثل: «كامالا هاريس ودوج إمهوف: دعم ثابت لإسرائيل»، أو «كامالا هاريس ودوج إمهوف، الثنائي القوي المؤيد لإسرائيل»، أو «كامالا هاريس وإليسا سلوتكين (المرشحة الديمقراطية لمجلس الشيوخ في ميتشيجان): الفريق المجرب الذي يمكننا أن نثق في دفاعه عن المجتمع اليهودي». ورسائل فيديو مستهدفة على مواقع التواصل الاجتماعي تقول أشياء مثل: «كامالا هاريس تقف مع إسرائيل».
وأثناء ذلك، في بعض المناطق بولاية بنسلفانيا، حيث توجد تركيزات كبيرة من الناخبين اليهود، تتلقى المنازل رسائل مثل: «كامالا هاريس ستشجع معادي السامية»، أو «دونالد ترامب يقف دائماً من أجل الشعب اليهودي». ورسائل فيديو على منصات التواصل الاجتماعي تقول: «كامالا هاريس لن تصمت بشأن المعاناة الإنسانية في غزة»، أو «كامالا هاريس ذات الوجهين: الوقوف مع فلسطين وليس مع حليفتنا إسرائيل».. إلخ.
هذه الرسائل البريدية والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي مدفوعة من قبل مجموعة من أصحاب الأموال السوداء تُدعى «Future Coalition PAC». وقد حدد الباحثون أن أحد كبار المانحين لهذه المجموعة هو إيلون ماسك، المالك الرئيسي لمنصة إكس والداعم القوي لحملة ترامب الرئاسية.
ومن المهم الإشارة إلى أن مقاطع الفيديو المستخدمة في هذه الإعلانات تحتوي على خطابات لهاريس، حيث تدلي في الواقع بتصريحات داعمة للغاية لإسرائيل وأخرى تعبر فيها عن تعاطفها مع الفلسطينيين الذين يعانون في غزة أو حق الطلاب في الحرم الجامعي في الاحتجاج على الظلم.
وما يجعل هذا الجهد تضليلا كلاسيكياً هو الاستخدام الانتقائي لهذه الاقتباسات والطريقة التي تُستخدم بها لتقديم ادعاءات مبالغ فيها في محاولة لتضليل مجموعات مستهدفة من الناخبين، وتثبيط دعمهم للمرشحة الديمقراطية. لننظر إلى الأمر بطريقة أخرى، لنسأل: ما هو تأثير هذه الإعلانات إذا تم عكسها، مع استهداف الناخبين العرب الأميركيين بالإعلانات المؤيدة للفلسطينيين واستهداف الناخبين اليهود الأميركيين بالإعلانات المؤيدة لإسرائيل؟
لطالما كانت المعلومات المضللة مشكلة في الانتخابات الأميركية. والآن، مع الإنفاق الهائل من قبل مجموعات الأموال السوداء وقدرتها على استخدام التقنيات المتقدمة لاستهداف وتضليل مجموعات محددة من الناخبين استناداً إلى سلوكهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هذه المشكلة أزمة.
أتذكر أنه في مناسبتين منفصلتين، خلال العامين الماضيين، حاولت مجموعةٌ مِن أعضاء اللجنة الوطنية الديمقراطية الضغط على الحزب لحظر استخدام الأموال السوداء في الانتخابات التمهيدية. وتم تحذيرنا من أن السماح للمانحين الجمهوريين من أصحاب المليارات بتشويه انتخاباتنا بالتضليل والمعلومات المغلوطة يشكل تهديداً لديمقراطيتنا. وفي كلتا المرتين، قامت قيادة الحزب بعرقلة جهودنا للتصويت على قرارنا. لم نكن نعلم أن حملة التضليل بالأموال السوداء التي يمولها المانحون الجمهوريون، والتي حذرنا منها، قد تساهم في قلب حملة المرشحة الديمقراطية للرئاسة بعد عام فقط.
*رئيس المعهد العربي الأميركي