لرئاسة جو بايدن قصة متميزة. فكما وردت على لسانه، فإنه كان قد انتهى من السياسة واعتزل الحياة العامة. لكن ذلك تغيّر بعد رد فعل دونالد ترامب الملتبس على مسيرة العنصريين البيض في شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا في عام 2017. فقد كانت تلك اللحظة التي أدرك فيها بايدن أن ترامب وحلفاءه يهددون ما أسماه «روحَ هذه الأمّة»: التزامها بالمساواة. لذا قرر دخول المعترك من جديد.
وفي خطاب تنصيبه عام 2021، وصف بايدن التاريخ الأميركي بأنه «صراع مستمر بين المُثل الأميركية الأعلى التي تقضي بأننا خُلقنا جميعاً متساوين، والواقع القاسي المتمثّل في أن العنصرية والعصبية القومية والخوف والشيطنة لطالما فرّقتنا». ووعد بايدن بجعل الولايات المتحدة «منارةً للعالم» مرة أخرى. ومنذ توليه منصبه، عبّر الرئيس عن التزام بالمساواة باعتباره الرد المناسب ليس فقط على صعود القومية البيضاء في الداخل، ولكن أيضاً على القوى التي تهدد الديمقراطية في الخارج.
لكن هذه الصورة التي رسمها بايدن عن نفسه تأثرت على نحو ملحوظ. فمن خلال دعمه الثابت لإسرائيل، دعم بايدن بشكل فعلي معاملتها المجحفة للفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة، وقلل من أهمية الأساس المنطقي الأخلاقي لخطابه السابق.
وداخلياً، وضع بايدن المساواة في موضع مقابل لنزعات سلفه القومية العرقية. ذلك أن ترامب ألمح مراراً وتكراراً إلى أن الأميركيين الذين ليسوا بيضاً ومسيحيين ليسوا أميركيين حقيقيين. وعلى النقيض من ذلك، أعلن بايدن في خطاب ألقاه في مايو 2023، أمام دفعة التخرج في جامعة هاورد، أن أميركا تقوم على فكرة المساواة في الحقوق «وليس على الدين أو العرق». وطوال فترة رئاسته، ما انفك بايدن يقدم نفسَه كمنافح عن هذا المبدأ ضد النزعات الاستبدادية في الداخل والخارج.
والحال أن النظام السياسي الإسرائيلي يقوم على الدين والعرق بشكل صريح. وهناك أقلية من الفلسطينيين تعيش داخل حدود إسرائيل وتتمتع بالمواطنة وبالحق في التصويت، غير أنه حينما تقدَّم سياسيون إسرائيليون عرب، في عام 2018، بمشروع قانون يجعل المساواة القانونية بين المواطنين العرب واليهود أساساً للقانون الإسرائيلي، رفض رئيسُ البرلمان الإسرائيلي السماحَ بالتصويت عليه لأن من شأنه أن «ينخر أسس الدولة».
ولهذا فحينما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن بايدن لا يدعم المساواة التي ينص عليها القانون الأميركي. والحال أن الحرب في غزة تجعل من المستحيل تجاهل هذا التناقض. تناقض يظهر جلياً حينما يعبّر بايدن عن تعاطفه العميق مع المعاناة الإسرائيلية مقابل لا مبالاة نسبية بالعدد الأكبر بكثير من القتلى الفلسطينيين، أو حينما يبدو أن إدارته تميِّز حتى بين المواطنين الأميركيين، إذ تُبدي قلقاً أكبر بشأن أولئك الذين قتلتهم الفصائل الفلسطينية، مقارنةً بأولئك الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي.
وبالتالي لا غرو أن يَعتبر «الديمقراطيون» سياسة بايدن بشأن حرب غزة أكبر فشلٍ في سياسته الخارجية، كما أظهر استطلاع للرأي أجراه «معهد الشؤون العالمية» في سبتمبر.
بيد أن دعم بايدن لما تقوم به إسرائيل أضر بسمعته في الخارج أيضاً. ذلك أنه لطالما قال إن الولايات المتحدة، وخلافاً لروسيا والصين، تدافع عن نظامٍ «قائم على القواعد» تلتزم فيه جميع الدول بمعايير معينة، بغض النظر عن قوتها.
خلال الأشهر السبعة الأولى من الحرب الإسرائيلية في غزة، استخدمت إدارة بايدن حق النقض (الفيتو) ضد 4 قرارات تتعلق بإسرائيل وفلسطين. واستنكر بايدن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين (ومعهم قادة فلسطينيون أيضاً). ولئن حذّر من القصف الإسرائيلي «العشوائي» لغزة والخسائر في أرواح المدنيين، فإنه جدّد التأكيد مراراً على دعمه لإسرائيل وأمدّها بكميات هائلة من الأسلحة.
وفي الشهر الماضي، اعترف بايدن في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة بأن «الكثيرين ينظرون إلى العالم اليوم فيرون الصعوبات ويستبد بهم اليأس». غير أن ما لم يعترف به هو أن الكثيرين ممن يؤمنون برؤية المساواة التي تحدّث عنها هو نفسه ذات يوم يعتبرون أنه يساهم في هذا اليأس، عبر معاملة الفلسطينيين فعلياً على أنهم دون البشر!
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»