في الأدبيات والثقافة السياسية الغربية أصبح مبدأ أن الأغلبية يجب أن تسود على الصعيد السياسي، وأن يكون بيدها اتخاذ القرار أمراً مركزياً في الفكر السياسي الغربي الرأسمالي ذي المجتمع الطبقي. في تفسير كُنه الديمقراطية، وفقاً لمقولة رئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق أبراهام لينكولين هي «حكومة الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب». ومصطلح شعب لا يعني جميع سكان الدولة، إنما يعني الأغلبية العظمى من السكان - الفقراء ومتوسطي الدخل منهم - على عكس من قلة من النخب والفئات الأرستقراطية وملاك الأرض وكبار أصحاب رؤوس الأموال الذين يحتكرون السلطة واقعياً. هذا المبدأ يعطي الحق للفقراء في الغرب الرأسمالي للاستفادة مما يملكه الأغنياء.
وهنا تصبح ممارسة السياسة هي ما يطلق عليه أصحاب علم الرياضيات «اللعبة الصفرية» Zero Sum Game، فما يربحه شخص أو طرف يخسره آخر، وما يخسره حزب أو كتلة أحزاب يربحه حزب أو كتلة أحزاب أخرى. والسياسة في الغرب الرأسمالي يتم الاشتغال بها وممارستها على هذا الأساس للقرون الثلاثة الماضية.
في هذه المقالات نحن نفرق بين معنى مقولتي مجتمع غربي طبقي، ومجتمع عربي إسلامي جمعي من منطلقات فكرية سياسية. النظرة السياسية للمجتمع الغربي الطبقي ليست ذات علاقة بالمجتمع الجمعي العربي الإسلامي، لأن السياسة في الغرب غير أخلاقية، ولا تتماشى مع السياسة في الإسلام القائمة على الأخلاق. السياسة في الغرب لعبة لا أخلاقية، وإن كانت قائمة على الديمقراطية، فهي بهذا المعنى مخلة بأية مساع حقيقية لبناء أمم تعيش فيها الأعراق المختلفة إلى جانب بعضها بعضاً في تناغم ووئام، وهي بهذا المعنى غير قابلة للتطبيق الكامل في الدول العربية، فهل لنا مثلاً عندما نقوم بعملية إحصاء الأصوات في انتخابات «ديمقراطية» تجرى في دولة عربية ما إن نصل إلى خاتمة بأن طائفة ما يجب أن تبتز الطوائف الأخرى، لأن أفرادها يشكلون الأغلبية؟ لكن في المجتمع الجمعي العربي المسلم لا يتم النظر إلى السياسة بأنها لعبة صفرية، فهذا من منطور عربي إسلامي لا أخلاقي وغير مقبول أو قابل للتطبيق. المجتمع الجمعي ظاهرة اجتماعية تحولت إلى ما يشبه المشكلة السياسية لدى معظم الدول العربية التي نالت استقلالها السياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، معظم هذه الدول غير متجانسة بالكامل من حيث تركيباتها السكانية، وتوجد أنماط من العداء فيما بينها.
هذا العداء يتم كبحه من قبل التقاليد التراثية التي زرعها الإسلام على مر القرون، ثم في حقبة الوجود الاستعماري الغربي تعزز ذلك الكبح لكي يخلق وئاماً اجتماعياً خدمة لمصالحه. الكتاب الغربيون يستخدمون مصطلح انشقاق لكي يضعوا عداء البشر لبعضهم بعضاً في المجتمع الواحد، ليس لأنهم لديهم مصالح مختلفة، ولكن بسبب كونهم أعداء تاريخيين لبعضهم بعضاً دون أن تبرز تلك العداوة على السطح بشكل واضح. والانشقاق لا يمكن تجاوزه بالنقاش السلمي المجرد، أو عن طريق تقديم التنازلات الاقتصادية، لأنه ليس قائماً على خلافات تتعلق بمصالح واضحة، لكن على خلافات دفينة وتراكمية لأجيال أو خاصة بالمبادئ. لذلك فهو الأمر الأكثر صعوبة في زخم المشاكل السياسية. المشكلة الديمقراطية في المجتمع الجمعي العربي الإسلامي تتعلق بخلق مؤسسات سياسية تغطي جميع من لهم الحق للمشاركة في اتخاذ القرار.
وعن طريق ذلك سيتولد في وسطهم شعور بالانتماء للدولة والمجتمع كمواطنين يتم احترامهم من قبل أقرانهم الأكثر عدداً، ويحظون باحترام متساو ضمن الرابطة الوطنية. في مجتمعات كهذه لا بد من تعزيز طروحات وشعارات مفادها أن إرادة ورأي الأقلية لها نفس وزن واحترام إرادة ورأي الأغلبية، لأن ذلك هو الذي يخلق حساً أفضل من الحس الذي تخلقه طروحات وشعارات أن إرادة ورأي الأغلبية هي التي يجب أن تسود.
*كاتب إماراتي