زرتُ إسبانيا مع الدكتور أحمد زويل في خريف 2010، وكان من بين جدول الزيارة محاضرة يلقيها الدكتور زويل في أكاديمية العلوم الإسبانية، في مدخل الأكاديمية تم وضع نسخة أصلية من كتاب لجاليليو في مربع زجاجي للمشاهدة والتقاط الصور.
في المساء دعانا المستشار العلمي للملك خوان كارلوس على العشاء، وكان جاليليو وعصره من بين أحاديث ذلك المساء، تحدث الدكتور زويل عن مسرحية علمية شاهدها في لندن بعنوان «كوبنهاجن»، وتحدث أحدهم عن مسرحية «حياة جاليليو» للكاتب المسرحي الألماني الأشهر«برتولد بريخت»، ثم انتقل لبعض الوقت إلى بريخت وعالمه الأدبي.
كتب «بريخت» مسرحية «حياة جاليليو» عام 1943 في أثناء الحرب العالمية الثانية، وهى مسرحية تعرض قصة انكسار جاليليو أمام رجال الدين وقيامه بالاعتذار للكنيسة، خوفاً من الإعدام.
استدعى «بريخت» أزمة رضوخ جاليليو أمام السلطة، ليقول بأن المشهد يتكرر الآن في ألمانيا النازية، وأن العلماء اختاروا التخلي مجدداً عن علومهم، خوفاً من بطش هتلر، والمسرحية امتداد لمسرحية أخرى لبريخت تم عرضها عام 1938، وهي مسرحية «الخوف والبؤس في عهد الرايخ الثالث».. حيث عرض حالة المجتمع الخائف من النازية حتى إن العائلات تخشى الحديث أمام أبنائها حتى لا يُبلغوا السلطات عنهم.
لم يكن بريخت معجباً بالنازية، ولا بما قبلها، فقد انتقد جمهورية فايمار التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى وأسقطها هتلر. وكانت فايمار تجربة ديمقراطية جيدة، لكنها واجهت وضعاً اقتصادياً صعباً، وقد كتب بريخت مسرحيته الشهيرة «أوبرا القروش الثلاثة» في نقد النظام الرأسمالي قبل هتلر، حيث رأى أن الطعام يسبق الحرية. يقول بريخت: «أيها السادة/ يا من تعلمّونا كيف نعيش مهذبين/ ونتجنّب الآثام والرذائل/ عليكم أولاً أن تعطونا ما نأكله/ ثم يمكنكم أن تتكلموا/ في البدء يأتي الطعام ثم تأتي الأخلاق».
في رائعته «دائرة الطباشير القوقازية» يرسم صراعاً بين ملكة تركت ابنها الرضيع للخادمة، وهربت لأسباب سياسية، ولما عادت للسلطة أرادت استعادته، فرفضت الخادمة التي صارت أمّه بالفعل. ولما احتكما للقاضي.. رسم دائرة بالطباشير، وفتح المنافسة بينهما عمّن يجذب الطفل من داخل الدائرة، فيأخذه.
وبينما تنجح الملكة في ذلك يحكم القاضي للخادمة، لأنها أحبت الطفل، ولم تشأ تمزيقه في صراع.
وفي رائعته «الأم شجاعة وأولادها» يروي قصة أم تدعي «شجاعة» عاشت زمن حرب الثلاثين عاماً في القرن السابع عشر، وهى سيدة سيئة من أثرياء الحروب، أقامت مطعماً لتستفيد من الحرب في جني الأموال، ولكن الحرب التي أكسبتها الكثير من المال التهمت أبناءها الثلاثة في رحاها، فانتهى بها المقام إلى خسارة كل شيء.
يرى المؤرخون الثقافيون أن بريخت يمثل المرحلة الثالثة من تطور المسرح، في الأولى كان اسخيليوس اليوناني، وفي الثانية جاء شكسبير، وفي الثالثة جاء بريخت، ويلقبه الأوربيون بـ«شكسبير ألمانيا».
كم يحتاج العالم إلى استحضار مآسي القرن العشرين من فاشية ونازية، ومن اشتراكية ستالينية ورأسمالية متطرفة، فلربما كان الحاضر أعقل، وربما كان القادم أفضل.
يعاني عالمنا من سباق التسلح وفوضى الحروب، وتوحش الجفاف، وزحف الجوع.. إنه عالمٌ عالق في أعلى الجبل يواجه خطر الانزلاق.. أو هو كحال السيد «ماكميث» في قصيدة بريخت.. رأسه معلّق على شعرة واحدة!

*كاتب مصري