يشهد العالم في الوقت الحالي عدداً من الصراعات المعقدة ذات التأثير على التوازنات العالمية والإقليمية، بعضها دولي الطابع مثل حربي أوكرانيا وغزة، مع وجود فروق في التفاصيل بطبيعة الحال، وبعضها الآخر داخلي الطابع بالأساس مع وجود أبعاد إقليمية وعالمية واضحة، له كالصراعات في كل من ليبيا واليمن وسوريا. ورغم الاختلافات الواضحة في التفاصيل، سواء بين الصراعات الدولية أو الداخلية، فإن القاسم المشترك بينها هو التعقد بحيث أنها عصية على التسوية، ولا يمكن حسمها إلا بانتصار طرف على الآخر، وهو ما لا يبدو وشيكاً في أي منها حتى الآن، وحتى لو انتصر طرف بعينه فمن الممكن أن يكون انتصاره تكتيكياً وليس استراتيجياً، أي لا ينطوي على حل للصراع بحيث لا يعود إلى الانفجار مرة أخرى. وفي تقديري أن السبب في هذه السمة المشتركة للصراعات الحالية على اختلافها يعود إلى أمرين أساسيين؛ أولهما طبيعتها التي تنصرف إلى قيم أساسية بالنسبة للأطراف لا يمكن التخلي عنها طواعية، وتوازن القوى بينها على نحو تتداخل فيه عناصر القوة المباشرة لطرفي كل صراع، مع عناصر قوة حلفائهما، وهي عناصر من شأنها تصحيح الخلل في التوازن بينهما، بحيث يساعد على الأقل في صمود الطرف الأضعف وإطالة أمد الصراع بما يسمح بحدوث تحولات داخلية أو خارجية يمكن أن تؤثر في توازن القوى بين الطرفين.
وبالنسبة للسبب الأول المتعلق بانطواء الصراع على قيم أساسية لا يمكن التخلي عنها طواعية، نلاحظ بالنسبة للحرب في أوكرانيا أنها تتعلق بوحدتها وسلامتها الإقليمية، أما روسيا فإن الحرب تتعلق بمكانتها الدولية ودورها في النظام العالمي، والذي لا تريده أن يكون دوراً ثانوياً، فضلاً عن الرغبة في ضم المناطق التي تسكنها جماعات ذات أصول روسية في شرق أوكرانيا. ولذا فهزيمة أي من طرفي هذه الحرب تعني بالنسبة لأحدهما (أوكرانيا) تقويض سلامته الإقليمية ناهيك باستقلاله، وتعني بالنسبة للآخر (روسيا) وضع نهاية لمشروعه السياسي السياسي وتطلعاته الوطنية.
وبخصوص الحرب الدائرة منذ قرابة العام في قطاع غزة (وفي الضفة الغربية أيضاً) فإن عدم انتصار إسرائيل فيها يعني عجزها عن الرد على عملية 7 أكتوبر 2023، ومن ثم يكون مستقبل وجودها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 مهدَّداً، وهو ما يعني وضع نهاية لمشروع إسرائيل الكبرى الذي يتبناه اليمين المتشدد، وهو الآن صاحب الأغلبية التشريعية، ومن ثم فإن الحكومة الحالية تعبِّر عنه بامتياز. بل إن بعض المحللين الإسرائيليين يرى أن الخروج من غزة والضفة سيكون نذيرَ شؤم بالنسبة لمستقبل إسرائيل وبقائها.
ومن هنا تفسير العجز في الحالتين عن التوصل حتى الآن إلى تسوية لإنهاء الحربين، رغم مرور أكثر من سنتين ونصف على اندلاع الحرب في أوكرانيا، وقرابة العام على الحرب الحالية في غزة، أما الصراعات الداخلية فكلها مرتبطة ببقاء نظم سياسية ومكانة قوى إقليمية على الأقل.
أما السبب المتعلق بدور الحلفاء فهو ببساطة يعود إلى أن دعمهم لطرفي الصراع يعوض الخلل في ميزان القوة بينهما؛ فتصمد أوكرانيا أمام روسيا لمدة أكثر مما كان متوقعاً، وتستعين الفصائل الفلسطينية في صمودها بجبهات الإسناد في لبنان وغيره.. كما تصمد أطراف الصراعات الداخلية الأخرى. ومن هنا تَعقُّد التسوية في الحالتين، وإطالة أمد الصراع بما يسمح بحدوث تحولات داخلية أو خارجية قد تُسهم لاحقاً في حسم هذه الصراعات المعقدة.