شهادات كثيرة يصعب إحصاؤها، آخرها من أطباء أميركيين تطوّعوا للعمل في قطاع غزّة منذ بدء الحرب، وبينها شهادات قليلة لكنها دقيقة لجنود إسرائيليين أدلوا بها في سياق التفاخر أو الشماتة أو الندم، وكذلك وقائع دوّنها كتّاب إسرائيليون مستهجنين ومستنكرين، عدَا تقارير المنظمات الأممية.. إلخ، وكلّها تُختصر في أن «الإنسانية» مرّت وتمرّ بفظاعات تقتيل متعمّد غير مسبوقة في هذه البقعة الفلسطينية.

قال الأطباء الأميركيون في بيان موجّه إلى البيت الأبيض إنه «لم يعد يجوز الصمت» إزاء كارثة من صنع البشر، بل إنهم قدّروا عدد الضحايا بما يصل إلى ضعف ما تعلنه سلطات غزّة الحالية، وهو العدد الذي شكّك فيه مسؤولون أميركيون وإسرائيليون. وأطلقت منظمة الصحة العالمية تحذيرات متتالية تشير إلى أن الأمراض والأوبئة وانهيار النظام الصحي.. تنذر بأن الذين بقوا على قيد الحياة يواجهون مصيراً ستتفاقم مخاطره بسبب انعدام الغذاء ونقص المياه وندرة الأدوية والرعاية الصحية.

أما التقارير الأممية الأخرى المتعلقة بمتطلبات التعليم وإعادة الإعمار فتبقى قاصرة عن تقدير الأضرار والخسائر.لم يكن لذلك أي أثر في اجتماع مجلسي الكونغرس الأميركي للاستماع إلى العرض الذي قدّمه رئيس الوزراء الإسرائيلي مدافعاً عن الحرب التي يخوضها جيشه، متجاهلاً ومبرراً عشرات آلاف الأطفال والنساء من الضحايا المدنيين، عدا عن تجاهله المبدأ الأخلاقي بوجوب إنهاء الحرب لا الإصرار على المزيد منها.

وقد جاء هذا الاجتماع بعد أيام قليلة على إعلان محكمة العدل الدولية رأيَها الاستشاري الذي طلبته منها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت خلاصة هذا الرأي أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 «غير قانوني»، ما يستتبع سلسلة طويلة من الانتهاكات، أبرزها الاستيطان وتوسيعه، مما يتعيّن إلغاؤه أو التعويض عنه. لم تطلب المحكمة نزعاً فورياً للاحتلال، وإنما النظر في الطرائق الدقيقة لإنهائه، وهو ما دعا إليه الجانب الغربي والأميركي خلال مرافعاته في لاهاي. لكن الإدارة والكونغرس وقوّة الاحتلال تعاملت مع رأي المحكمة كأنه لم يكن، رغم أن ذلك يبعث برسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن «الأمر الواقع» المفروض بالقوّة هو فوق القوانين الدولية.

لكن هذا المنطق ينزع من أميركا والغرب كل الذرائع «القانونية» في شأن حرب أوكرانيا وغيرها من النزاعات. هذه العقلية وتطبيقاتها الميدانية تُسقط كل التصنيفات التي اعتبر المجتمع الدولي أنه حقق فيها تقدّماً حضارياً للبشرية، من اتفاق جنيف الرابع لكيفية تعامل أي قوّة محتلة مع الشعب والأرض والموارد الطبيعية. واستطراداً أصبحت اتهامات «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية»، أو «الإبادة الجماعية» و«التطهير العرقي».. بلا معنىً ولا مغزى، ومعها بات «الحق في تقرير المصير»، وكذلك قيم الحرية و«احترام حقوق الإنسان».. كل ذلك بات مجرد قواعد منفلتة يخضع تطبقها لإجراءات استنسابية.

ولا عجب عندئذ في أن ينبّه علماء السياسة والاجتماع إلى أن جوهر النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية لم يتآكل فحسب، بل لعله في طور سقوط مروّع. فأي غزو خارجي سيجد سنداً «مشروعاً» له في غزو سبقه، وأي انتهاكات إنسانية ستسوّغ بانتهاكات حصلت ولم تخضع لأي مساءلة، وأي جرائم حرب ستساوى بجرائم أخرى تبادلت القوى الدولية الكبرى غضّ النظر عنها للمضي قدماً في التعاون من أجل المصالح.

بعضٌ من هذه القوى ينتهك القيم بشكل علنيّ فجّ، وبعضٌ آخر يجهد لإبعاد انتهاكاته عن الأضواء. لذا لا يمكنها أن تحاضر حول الفوارق بين الهمجية والتحضّر، طالما أنها غير قادرة بسلوكياتها على أن تكون نماذج في احترام القوانين الدولية.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن