كتبتُ في الأسبوع الماضي عن «رشادة القرار ونماذج الغياب»، وأتناول اليوم تداعيات غياب الرشادة في اتخاذ القرار. وكما أوضح التحليل السابق فلم يكن قرارَا رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الفرنسي بالدعوة لانتخابات مبكرة أولَ نموذجين لقرارات غير رشيدة، بل سبقتهما قرارات عديدة كان معظمها يتعلق بتدخلات عسكرية في الشؤون الداخلية لدول أخرى، وصولاً إلى حد الغزو، وانتهى معظمها بكوارث للطرف المتدخِل، وبطبيعة الحال للدول ضحية التدخل أيضاً.

ومع أن نموذج هربرت سايمون الذي أشارت إليه المقالة السابقة، قد أعطى تفسيراً لما أسماه «الرشادة المحدودة» نتيجة عدم توافر المعلومات بالكامل لدى صانع القرار عن محيطه، فإن قراري سوناك وماكرون بالدعوة لانتخابات مبكرة لا يمكن التماس العذر لهما باللجوء إلى تطبيق فكرة سايمون، فقد أشارت الوقائع بوضوح - وليس مجرد استطلاعات الرأي - إلى تدنٍ واضح لشعبية حزب المحافظين كما بدا في الانتخابات المحلية التي أُجريت في مطلع مايو الماضي، بينما أظهرت انتخابات البرلمان الأوروبي التي أُجريت في الأسبوع الأول من شهر يونيو الماضي احتلالَ «حزب التجمع الوطني» اليميني المتشدد المرتبة الأولى بين الأحزاب السياسية الفرنسية، بما فيها «حزب النهضة» الذي يمثل القاعدة السياسية لماكرون. فما هي الحسابات التي اعتمد عليها إذاً كلٌّ من سوناك وماكرون كلا في اتخاذ قراره؟

الحقيقة أنه لا توجد أي حسابات رشيدة يمكن أن تبرر ذلك، وحتى لو افترضنا أن ماكرون كان يراهن على فزاعة اليمين المتشدد في أوساط الناخبين الفرنسيين، - وهي فزاعة ثبت استمرار صحتها، وإن لم تنقذ ماكرون من تداعيات غياب الرشادة في قراره- فإن سوناك يفتقر إلى أي عذر في القرار الذي أقدم عليه، وذلك ببساطة؛ لأن كل استطلاعات الرأي العام كانت تشير إلى تقدم أكيد لـ«حزب العمال» المعارض، خاصة بعد أن تخلص من تهمة اليسارية المتجاوزة لتقاليد الحزب التي طالت زعيمه السابق جيرمي كوربين.

ومن المعروف تقليدياً أن الزعماء السياسيين في النظم البرلمانية وشبه البرلمانية يستخدمون ورقة حل السلطة التشريعية عندما تكون أغلبيتهم فيها مهتزة أو مهددة بالزوال في أي وقت، في ظل فارق ضئيل بينها وبين المعارضة، وفي وقت يشعر فيه هؤلاء الزعماء بأن شعبيتهم لدى الرأي العام في صعود، ومن ثم يأملون بحل البرلمان واللجوء لانتخابات جديدة أن يعززوا أغلبتَهم بوضوح، على العكس تماماً مما كان عليه الحال بالنسبة لكل من حزبي سوناك وماكرون.. فماذا كانت النتيجة؟ جاءت النتائج كارثية بكل المقاييس، فقد مُنِي «حزب المحافظين» بهزيمة تاريخية، فخرج من الحكم بعد 14عاماً متصلة، وبلغ الفارق بينه وبين «حزب العمال» 291 مقعداً، إذ حصل هذا الأخير على 411 مقعداً مقابل 120 فقط للمحافظين، أي ما يقرب من 4 أمثال حزب المحافظين. أما ماكرون، فعلى الرغم من أنه صعد من المركز الثالث في نتائج انتخابات الجولة الأولى إلى المركز الثاني في نتائج جولة الإعادة، إلا أنه سوف يتعين عليه مواجهة ظروف بالغة الصعوبة في المدة المتبقية من رئاسته، وذلك نتيجة اضطراره للتعايش مع حكومة معارضة لسياساته.

صحيح أن تحركه الهادف لإجهاض فرصة اليمين المتشدد في الحصول على الأغلبية المطلقة قد نجح، لكن ائتلاف اليسار قفز إلى المقدمة، كما أن حسابات تكوين الائتلاف الحكومي القادم قد تعقدت لدرجة بات يُخشى منها على مستقبل الجمهورية الخامسة. والخلاصة أن هذه التطورات، وتطورات أخرى سبقتها، تشير إلى أن غياب الرشادة لم يعد شيئاً نادراً في عالم الدول الصناعية المتقدمة حالياً.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة