لا أحد كان يتوقّع أن يتّخذ حلف شمال الأطلسي («الناتو») خطوات نحو إنهاء حرب أوكرانيا والدفع إلى حلّ دبلوماسي تفاوضي، لكن أكثر من ثلثَي العالم كان يتمنّى ذلك، أما أن يتّجه الحلف نحو التصعيد فيما تخسر أوكرانيا مزيداً من أراضيها، فهذا ما أثار القلقَ والمخاوف.
فمن التعهّد بحزمة مساعدات على المدى الطويل، إلى توفير مقاتلات جوية كانت الموافقة عليها متعذِّرة في السابق، إلى رفع الحظر تدريجياً عن قصف الأراضي الروسية بالأسلحة الغربية، إلى اعتبار أن عضوية كييف في الحلف مسألة وقت.. أظهر الأطلسي تصميماً على مواصلة تمكين أوكرانيا من الدفاع عن نفسها، وكذلك الدفاع عن الغرب بمجمله. عاد «الناتو»، بمناسبة بلوغه خمسة وسبعين عاماً، إلى جذور القاعدة الفكرية التي أنشأته ولم يبتعد عنها إلا لفترة قصيرة، وإلى الدوافع المباشرة لتأسيسه بعد أربعة أعوام من انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي مواجهة الاتحاد السوفييتي آنذاك، وبالتالي روسيا حالياً. هل التاريخ يعيد نفسه، أم أن الصراع وُجد ليستمر ويتجدّد بأوجه وأساليب مختلفة؟ بعد فترة من الترقّب حيال الصين، لم يكن «الناتو» متردّداً خلال قمة واشنطن في وصفها بأنها «عامل تمكين لروسيا» في حربها الأوكرانية، معدّداً مجالات الدعم. وردّت بكين باستياء شديد على ما اعتبرتها «معلومات مضللة» و«مزاعم (أميركية) غير مبرّرة» تهدف إلى تقويض التعاون بين الصين وأوروبا.
وفيما ركّزت بكين على أن البيان الختامي لقمة حلف الأطلسي «مشبع بعقلية الحرب الباردة»، يمكن القول إن أعضاء «الناتو» تجاوزوا تلك العقلية عائدين إلى ما قبلها، أي تحديداً إلى عقلية الحربين العالميتين. وتبيّن كتابات غربية كثيرة حالياً أن الباحثين والمحلّلين منشغلون بمقارنات بين الأحداث التي سبقت كلاً من الحربين وبين تلك التي أدّت إلى حرب أوكرانيا التي ربما تمثّل، في نظرهم، مجرّد مقدمة لحرب أوسع.
قد يكون الاتفاق الأميركي الألماني على نشر أسلحة بعيدة المدى في ألمانيا من الدلالات القويّة على هذا المنحى الخطير، إذ اعتبرته موسكو «خطأً جسيماً»، معلنةً أنها تخطّط للردّ عليه، لأن من شأنه أن يؤدّي إلى سباق تسلّح خطير و«عواقب لا رجعة فيها».
وفي الفترة الأخيرة لم تعد برلين تلحّ على ضرورة التفاوض على السلام في أوكرانيا، وكان مستشارها بين زعماء غربيين قلائل زاروا موسكو سعياً إلى تفادي توسّع الحرب. أما الرئيس الفرنسي الذي قام بمسعى مماثل قبل بدء الحرب، وواصل بذل محاولات دبلوماسية بعد اشتعالها، فلوّح أخيراً بإرسال قوات للقتال في أوكرانيا.
وفي الأثناء تخلّت السويد وفنلندا عن حيادهما التاريخي لتنضمّا إلى «الناتو» الذي أعلن أمينُه العام قبل أسابيع أن الدول الأعضاء تضاعف ميزانياتها الدفاعية لتعزيز قدراتها العسكرية، وتبحث «نشر المزيد من الأسلحة النووية» لمواجهة «التهديد المتزايد من روسيا». وإذ زار رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، موسكو وبكين حاملاً أفكاراً لإنهاء الحرب، فقد تبرّأ الاتحاد الأوروبي من تحرّكه واعتبر أنه لا يمثّل سوى نفسه.
وفي المقابل، لطالما كرّرت روسيا أن «الناتو» أصبح منخرطاً بشكل كامل في الحرب. وبعد الاتفاق الأميركي الألماني قال سفير روسيا في واشنطن إن القواعد الأميركية في ألمانيا «ستكون في مرمى النيران الروسية»، فيما حذّر الكرملين من أن «بنية الناتو العسكرية تتقدم نحو حدودنا باستمرار». لذا أبدى رئيس تركيا (العضو في الحلف) قلقاً من احتمال وقوع «صراع مباشر» بين روسيا و«الناتو». غير أن محلّلين يتوقعون أن يتبدّل هذا المناخ في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
*كاتب ومحلل سياسي - لندن