كثير من الناس والكتاب والمفكري والمغرّدين في زمننا هذا، يتباكون على الزمن الماضي «الجميل» ويحنون إليه، وهم يصفونه بالأنقى والأجمل، ويتذمرون من حال زمانهم ومن الحياة التي استمرت بهم إلى أن يروا هذا الارتباك والاضطراب والتشوش.. معتَبِرين ما مضى مرحلة النزاهة والفطرة والإنسانية والأريحية والصدق والعفة.. إلخ.
لكن في المقابل فقد كتب أحدهم مقالا بعنوان «خدعة اسمها الزمن الجميل»، يتهكم فيه ناقماً على الماضي، واصفاً إياه بالأسوأ، ليرد عليه أحدهم بالقول: السبب أن الصدفةَ والحظ خدمتاك لتكون أفضلَ حظاً من زملائك في المنصب والعمل والمرتب! أما السواد الأعظم من الكبار فيصرون على الاستمرار في البكاء على الماضي الجميل.. وأنا واحد منهم، لأن ذلك الماضي، رغم صعوباته القاسية، كان واضحاً ونقياً ولم يتلوث ببعض أخلاقيات الحاضر وسلوك أهله المضطرب!
كان الكاب الباكستاني أديب ميرزا (1914- 1999)، أديباً مبدعاً له مجموعات قصصية قصيرة ملهمة، وقد كتب في إحداها قائلاً: جئتُ إلى مدينة دلهي، في ستينيات القرن الماضي، أبحث عن فرصة عمل، وقد حصلتُ عليها لكن سرعان ما فقدتُها. وبعد نزولي من الحافلة ذات يوم، فتشتُ جيبي أتفقده، ولم أجد المحفظة التي سرقها أحدُهم خلسة، وكانت بها 50 روبية ورسالة أعتذر فيها لوالدتي لأني لم أستطع إكمال المبلغ المعتاد لها كل شهر، بعد أن فُصلتُ مِن عملي. وبعد سرقة المحفظة، ظل بالي مشغولاً بأمي وبحاجتها إلى المال الذي انقطع عنها وليس لها بديل عنه.
مرت عليَّ أيامٌ صعبة وعسيرة للغاية، وإذا برسالة من والدتي. شعرتُ بالأسى والقهر، إذ توقعتُ أنها تعاتبني لأني لم أرسل لها المبلغ المعتاد شهرياً، وإذا بها تشكرني وتقول: المبلغ وصل كاملاً يا ابني.. شكراً لك من القلب! كم كنتَ نبيلاً ورائعاً وصادقاً ووفياً.. لأن المبلغ يصلني في وقته المعتاد من حوالتك المعتادة! انتابني شعور غريب لا يوصف، فارتبكتُ واحترت متسائلاً في نفسي: كيف وصل إليها المبلغ وأنا لم أرسله أصلاً؟! بعد عدة أيام وصلتني رسالة، بخط رديء، يفيدني صاحبُها بأنه أرسل المبلغ لوالدتي، بعد أن جمع كلَّ المتبقي لإكماله، وقال: لقد أرسلتُ 50 روبية بعد أن أضفت 39 روبية لإكمال المبلغ بغية تغطية حاجة أمك. ثم يضيف: وما ذنب أمك وأمي كي تتعرضا للفقر والحاجة والجوع؟
لم يستطع ضميري أن يتحمَّل جوعَ والدتك وهي تنتظر منك مصروفَها الشهري لكي تعيش وتقي نفسَها الجوع! ويختم رسالتَه بالتوقيع التالي: «صديقك المخلص الذي سرقك»!ما دفعني لاستعادة هذه القصة المؤثرة، أن صديقاً مخرجاً عربياً، تم تكليفه بإنتاج عمل فيلمي لصالح إحدى المؤسسات، واتفق معهم على التكلفة المالية، وألحوا عليه بسرعة تنفيذ العمل والانتهاء منه في أقرب وقت ممكن.. ولهذا السبب فقد ضغط على نفسه وترك كل التزاماته كي يقوم بالمطلوب، ثم أكمله وسلمهم إياه. وبعد أيام تواصل معهم، فردوا عليه قائلين، إن عملك لا يصلح وليس هو المطلوب، وقد انتفت الحاجة إليه الآن، ثم اغلقوا الهاتف في وجهه! من دون حتى أن يقولوا له كلمة شكر أو اعتذار! فكم يحتاج الناس اليوم إلى «لصوص نبلاء».. لكي تستمر فضائل الصدق والحياة المعتادة بلا كذب ولا نصب ولا تشويه للقيم والأخلاق!
*كاتب سعودي