يندرج الاهتمام بنوعي المعرفة الضمنية والواضحة، أو ما يمكن تسميته بالمعرفة الفطرية والمكتسبة، ضمن ذلك الاهتمام الذي جذب انتباه عقول الفلاسفة منذ القدم، وبخاصة في مضمار شرح كل منهما والحديث عن مصدرها وطبيعة تكوينها.
وقد شكلت المعرفة محورَ جدل في ذات الوقت الذي كانت فيه محور اهتمام وتفكير، وبخاصة في ظل الفكرة الأولى التي تتشكل حول المعرفة الفطرية التي تعبر عن المضامين المعرفية المولودة معنا، إلى جانب المعرفة المكتسبة التي تشير إلى أصناف وأنواع المعارف المتحصَّل عليها خلال مسار الإنسان الواقعي الذي يحتك فيه بالعديد من الظروف المولِّدة للخبرة والتجربة والسلوك التفاعلي مع مختلف المعطيات المحيطة به.
ومن هذا المنطلق نجد أن العديد من الفلاسفة البارزين اختاروا طبيعة الأفكار كقاعدة تنبني عليها الفلسفة المتولدة عن ذلك، ففي مجال المعرفة الفطرية نجد أن الفيلسوف صاحب النزعة العقلانية رينيه ديكارت، اتجه نحو اعتبار فكرة مثل مفهوم الذات بذرة مغروسة في فطرة الإنسان منذ وجوده. في حين رأى إيمانويل كانط، المعروف بفلسفته ذات الاتجاه النقدي، أن هناك العديد من الأفكار التي يعتبر العقل مسؤولاً عنها في المرتبة الأولى، مثل تلك العمليات الدقيقة المرتبطة بالسببية والزمان والمكان التي تقع في إطار التجربة الحسية.
وفي ذات الوقت نجد أن الفلسفة التجريبية تفسّر المعرفةَ التي يكتسبها الإنسان على أنها تمثل خطوة لاحقة تتشكل من خلال الاعتماد على الحواس إلى جانب ما تم تجميعه من تجارب، على اعتبار أنها السبيل لتكوين معرفة. وهذا رأي الفيلسوف جون لوك، على سبيل المثال لا الحصر.
وفي ذات الوقت فقد ركز الفيلسوف ديفيد هيوم على الجانب الحسي مع تقديم وجهة نظر فلسفية مشككة بالقدرة المعرفية المطلقة، حيث إنه بفلسفته التجريبية التشككية أكد على فكرة تكوين المعرفة من خلال المستقبِلات الحسية (الحواس) وما تتيحه من خبرات، مع إثارة استفهامات عديدة حول مدى قدرة الإنسان على الوصول للفهم الكامل الواضح بشمولية مطلقة.
وحاول العديد من الفلاسفة الخروج بوجهة نظر فلسفية مختلفة عما سبق من اصطفافات منحازة بالمطلق لاتجاه دون الآخر في تفسير الفكرة أو المعرفة التي يصل إليها الإنسان، وذلك من خلال التوفيق بين ما هو فطري وما هو مكتسب من المعارف ومصادرها، حيث نجد أن صاحب الفلسفة الرشدية (غوتفريد ولهلم لايبنتز)، يفسر نشأةَ المعرفة الإنسانية بالقول إنها نتاج من خليط بين القدرة الفطرية والعقلية البشرية إلى جانب المؤثرات الخارجية التي تمثل دور المنشط أو المحفز، وذلك في خضم التجربة الإنسانية ككل، وبالتالي نجد أن لايبنتز يعتبر أن نوعي المعرفة، المكتسبة والفطرية، ما هما إلا وجهان لعملة واحدة تتعذر إمكانية الفصل بينهما.
وختاماً لهذا العرض بشأن خلاف الفلاسفة حول طبيعة المعرفة ومصادرها ومسار تكوّنها، أجد أن الأجدى والأكثر نفعاً للإنسان هو الانشغال بأساليب تطوير المعارف والارتقاء بمستواها أكثر فأكثر، وذلك من خلال البحث عن التصنيف النظري لها، وبخاصة عند إدراك الفسيفساء المتنوعة التي يمكن الخروج بها من امتزاج أنواع المعارف مع بعضها البعض، والقدرة على التوفيق الحقيقي بين وجود المادة الأصلية والأساسية التي نحتاجها (العقل)، والقدرة على استثمارها بالطرق الأمثل والأكثر جودة ونفعاً.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة