مرّت (120) سنة على تبادل الرسائل بين الإمام محمد عبده والأديب العالمي ليو تولستوي. ففي عام 1904 أرسل الإمام للأديب، ثم ردّ الأديب على الإمام.. وفي عام 1905 رحل الإمام لتخسر مصر والعالم الإسلامي والعالم أجمع واحداً من أعظم الرجال وأرقى المفكرين. ولد الإمام محمد عبده في ريف طنطا، وعاش حياته الأولى في ريف شبراخيت محافظة البحيرة، وما بين دمنهور والزقازيق وطنطا قطع رحلة متميزة في القضاء، وفي القاهرة بدأ رحلة أعظم في التجديد والتحديث وإعادة البناء. في القرن التاسع عشر كانت مصر محظوظة بتعيين محمد علي باشا للإمام حسن العطار شيخاً للأزهر الشريف، وفي القرن العشرين كانت مصر محظوظة مرة أخرى بتعيين الخديوي عباس الإمام محمد عبده مفتياً للديار المصرية. كان الإمام محمد عبده مؤيداً وداعماً للثورة العرابية وللتيار العرابي، وكان مجدداً في الفكر والفقه، وبعد إبداء ملاحظاته على الأداء التقليدي للأزهر، وضعَ أسس ثورة فكرية أزهرية امتدت حتى الإمام الأكبر أحمد الطيب في القرن الحادي والعشرين. كان الأزهر محظوظاً بالقيادة الفكرية للإمام محمد عبده الذي كان واسع الاطلاع، وأراد عولمة الأزهر، وعالمية الوسطية.. كما سعى لحماية الدين من التطرف والجمود داخل دياره، ومن هجمات المستشرقين والمستعمرين خارج أرضه.
واحدةٌ من خطى الإمام في هذا السياق كانت رسالته الشهيرة إلى الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي في أبريل 1904، ثم رسالة الأديب إليه.. والمحفوظة في متحف تولستوى بموسكو. افتتح الإمام رسالته إلى تولستوى: «أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي».. واختتمها بقوله: «إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن بالفرنسية، فأنا لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها». كتب الإمام رسالته بخطّ يده، وذيّلها: محمد عبده - عين شمس - ضواحي القاهرة. أعجب تولستوى كثيراً برسالة الإمام، وافتتح ردّه بقوله: «المفتي محمد عبده.. صديقي العزيز، واختتمها: «تفضلّ أيها المفتي العزيز محمد عبده بقبول وافر التوقير».
كان تولستوي مطلعاً على الإسلام والثقافة العربية، فقد درس اللغات الشرقية في جامعة كازان عاصمة تتارستان المسلمة، وأعجب بقصص ألف ليلة وليلة، كما قرأ في الفكر الإسلامي، وقرأ القرآن الكريم بالفرنسية. أُعجب تولستوي بالإسلام وقيمه السمحة، وتراثه الحضاري، وكان مؤمناً بإنهاء الاستعمار وإقرار السلام في العالم.
كان الإمام محمد عبده الذي وصفَه الأستاذ عباس محمود العقاد بأنه «عملاق التنوير» معجباً بأدب وفكر تولستوي، وأدرك أنّ مواقفه تمثل مدداً عظيماً لقيم التسامح الديني والتحرر الوطني والسلام العالمي. ولذا اختار أن يُراسله، ويثني على مشروعه، ويفتح حواراً عالمياً مع حكيم عالمي بوزنه وقدره. يحتاج العالم الإسلامي إلى مثل هذه المراسلات من جديد، إلى حوار رفيع على مستوى النخب الفكرية العالمية، كبار الفلاسفة وقادة الأديان وحائزي نوبل. لا يجب أن يكون الحوار بشأن عالمنا إعلامياً يقتصر على الساسة والمشاهير، بل يجب أن يرتفع لبحث رؤية كلية للدين والدنيا، للحرب والسلام، للجوع والخوف.
*كاتب مصري