لا يزال العالم يتعافى من آثار جائحة «كورونا» وما بعدها من مخاطر جيوسياسية على الاقتصاد العالمي. ومع أن العالم يحقق معدلات نمو مستقرة للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات، في عام 2024، عند 2.6%، فإن المعدلات تظل أقل بكثير من المتوسط البالغ 3.1% في العقد السابق على تفشي «كورونا».

وبرغبة في تحقيق التنمية المستدامة، عبر التوسع في الاستثمارات المرتبطة بالبنية التحتية ورأس المال البشري وبناء قدرات التكيف مع تغير المناخ، تحتاج الدول إلى تمويل كبير لتنفيذ المشروعات، ولأنها لا تستطيع تدبير كل ما تحتاجه من الإيرادات والأسواق المحلية أو الاستثمارات فقط، تلجأ إلى التمويل بالدين، لكن عند الارتفاع الكبير في الديون العالمية تبرز المخاوف من الآثار السلبية على الاقتصاد العالمي. وبالنظر إلى العوامل الأساسية للتحركات الكبيرة في الديون حول العالم، نجد أنها ترجع إلى سياسات التحفيز المالي بعد كورونا لتنشيط الاقتصاد، والتوترات الجيوسياسية، والقيود على سلاسل التوريد، والهبوط في إجمالي الناتج المحلي، ومعدلات الفائدة المنخفضة المحفزة للاقتراض، بينما تكمن التخوفات في التأثير على الحكومات والقطاع الخاص في الحد من قدرتهما على الاستثمار في النمو المستدام، وزيادة تكاليف الاقتراض، وصعوبة الحصول على التمويل بشروط ميسرة، أي رفع العبء على الميزانيات العامة، والاضطرار إلى تقليل الإنفاق الحكومي في التعليم والصحة والبنية التحتية، وتباطؤ النمو الاقتصادي. كلما زادت مستويات الدْين العالمي، ارتفعت تحديات التعامل معه، والواقع أن الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان والمملكة المتحدة وفرنسا، ترتفع معدلات ديونها الخارجية بسرعة، ما يزيد الضغط على الاقتصادات العالمية، ولاسيما مع ارتفاع التضخم ورفع معدلات الفائدة، ما يُؤدّي إلى زيادة تكلفة الاقتراض وأعباء الحكومات من معدلات المديونية العالية، أما الدول النامية، خاصة الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، فتلجأ إلى تخصيص أجزاء معتبرة من الموازنات لخدمة الديون الخارجية، الأمر الذي يضعف القدرات المالية للقطاعات الأساسية، ويزيد من احتمالات التخلف عن سداد الديون، حال حدوث أزمات إضافية.

على عرش الدول المُقترضة في العالم تجلس الولايات المتحدة، بدين يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو بشكل مطرد ويتجاوز 140% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2032، وهو يزيد على 34.4 تريليون دولار، في 2024، من 28 تريليون دولار في 2021، ما يرفع خطر حدوث أزمات تؤثر على الاستقرار المالي الأميركي والعالمي.

وعلى مستوى العالم، ارتفع الدين إلى 315 تريليون دولار، بنهاية الربع الأول من 2024، وسيستمر في النمو ليصل إلى 98.8% في 2029 من الإنتاج المحلي الإجمالي العالمي، مع إفراط الصين (88.6%من الناتج المحلي الإجمالي)، في الاقتراض، إذ يتوقع وصوله إلى مستوى 110% من حجم الاقتصاد في 2029، خاصة مع سياسات خفض الضرائب وزيادة الإنفاق والأزمة العقارية وأعباء النمو الاقتصادي.

تفاقم الدين العالمي يهدد باحتمالية حدوث أزمات مالية، لأن الاقتصاد لن يكون قادراً على امتصاص الصدمات والاهتزازات في الأسواق، مع زيادة الأعباء المالية على الحكومات والقطاع الخاص، غير أن الديْن المرتفع يؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين، ما يعني تراجع الاستثمارات، وهذا الوضع ينبهنا إلى ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة، خاصة إذ تجاوزت مستوى الديْن الحرج 90% - يختلف الخبراء حول النسبة الدقيقة - من الناتج المحلي الإجمالي، والأهم العلاقة بين معدّل النمو وسعر الفائدة، ومدى تجاوز النمو مستوى سعر الفائدة الذي يجب أن يقترض به.

تكمن معالجة الارتفاعات المتسارعة في الديون العالمية في الضبط المالي بترشيد الإنفاق العام، والخفض المستمر في نسبة الديْن العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، عبر تخفيض قيمة الديْن وزيادة قيمة الناتج المحلي، ويمكن أن يكون رفع معدلات ضريبة الدخل على الفئات الأكثر ثراءً خياراً جيداً، مع إعادة هيكلة المديونية وتخفيف أعباء الديون، وتحسين الحوكمة المالية بالشفافية، لأن أي اضطراب في الأسواق المالية الكبرى يمكن أن يؤثر سلبيّاً على الأسواق في أنحاء العالم كله، بالدخول في دورات تباطؤ في النمو. تختلف الدول النامية عن الدول المتقدمة في التخلف عن السداد، إذ إن اقتراض دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، يعني أن المخاطر محدودة، والتخلف عن السداد أمر مستبعد إلى حد كبير، فيما تتعرض دول أخرى لخطر التعثر، لكن بشكل كلي الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي التي تفاقم الديون العالمية، لقدرتها على الاقتراض بموثوقية وبتكلفة بسيطة، لكن الاعتماد على الديون في التنمية برغم أهميته يتطلب التعامل بحذر في إدارة الديْن، حتى لا نجد العالم يدخل في أزمة تلو الأخرى من دون قدرات كبيرة على التعافي.

*باحث رئيسي - نائب رئيس قطاع البحوث - مركز تريندز للبحوث والاستشارات