بعد مناظرة الرئيس الأميركي المرشح لولاية ثانية جو بايدن ومنافسه الرئيس السابق دونالد ترامب لم تعد الإشكالية تتعلّق بسنّي الرجلين فحسب، بل خصوصاً بحال عدم اليقين التي أشاعاها حيال السياسات التي دافعا عنها.
يقدّر الأميركيون هذه المناظرات التي كان نظامهم أول من ابتكرها لتعزيز للنقاش العام والارتقاء بأداء الديمقراطية، لكن لم يسبق لهم أن شهدوا نسخةً مفعمة بالطعن الشخصي والاتهامات المتكرّرة بالكذب، إلى الأوصاف الخارجة عن المألوف كأن يستخدم ترامب هوية شعب آخر للتقليل من شأن منافسه، بالقول إنه «أصبح وكأنه فلسطيني، لكنهم لا يحبونه لأنه فلسطيني سيئ، إنه شخص ضعيف». وقد خرج ترامب من المناظرة فائزاً، رغم أنه - مثل بايدن - لم يطمئن ناخبيه وشعبه إلى تغيير إيجابي في أوضاعهم الاقتصادية، وهو ما ينتظرونه، في حال اختاروا التصويتَ له. كان متوقّعاً أن يشكّل الموقف من روسيا ومن حرب أوكرانيا إحدى اللحظات الساخنة في النقاش، وقد التزم الرئيس الحالي سياسةَ مواجهة روسيا ومواصلة دعم أوكرانيا في إطار «التحالف الغربي».
أما الرئيس السابق الطامح للعودة إلى البيت الأبيض، فكرّر «فرضية» أنه لو كان رئيساً لما وقعت الحرب، مؤكّداً أنه يمكنه إنهاءَها (رغم عدم موافقته على مقترحات الرئيس الروسي) أو يترك أوروبا تنفق عليها وحدها، مثيراً مجدّداً فكرةَ مراجعة الالتزام الأميركي بالحلف الأطلسي، وفي ذلك ما فيه من زعزعة للنظام الدولي قبل اتضاح أي نظام بديل يتبنّى أسساً للسلام والاستقرار، ويرفع مخاوف الشعوب كافة على أمنها الاقتصادي والطاقوي والغذائي. لم تكن السياسة الخارجية محورَ المناظرة الأميركية، ولا هي عنصر حاسم في أي انتخابات، إلا في حال انعكست على الأوضاع الداخلية، كمسألة الهجرة مثلاً التي تحتل حالياً موقعاً بارزاً في كل الصراعات السياسية في بلدان الغرب.
وقد أظهرت حملات انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً أن اليمين المتطرّف تسلّح بمسألة اللجوء والهجرة وربطها بالتراجع الاقتصادي ليتحدّى بهما الحكومات اليمينية القائمة، سعياً إلى تغييرها. هذا ما أفرزته المناظرات عشية انتخابات فرنسا (30 يونيو)، حيث تشهد الخريطة السياسية تشرذماً غير مسبوق، وأيضاً في انتخابات بريطانيا (4 يوليو)، حيث ما يزال التنافس فيها بين الحزبين الرئيسيين، لكن اليمين المتطرّف يجد حالياً استجابة لطموحاته داخل صفوف المحافظين.
وكان صعود اليمين الشعبوي (أو المتطرّف) قد ترافق مع انتخاب ترامب للرئاسة الأميركية قبل ثمانية أعوام. والمفارقة في هذه الظاهرة أن القبول المجتمعي لها يزداد حتى مع إعلان الحكومات أن تحسّناً طرأ على الاقتصاد، فالخبراء الأميركيون يقرأون الأرقامَ ويعتبرون أن أداء إدارة بايدن كان جيداً في مقاييس النمو والبطالة والتضخّم.. لكن ذلك لم ينعكس على استطلاع آراء الناخبين. ورغم الإعلان عن خروج بريطانيا من الركود وهبوط نسبة التضخّم فيها، فإن فرص رئيس الوزراء ريشي سوناك للحفاظ على غالبية حزب المحافظين لم تتحسّن إزاء حزب العمال. كذلك الأمر بالنسبة لحزب الرئيس ايمانويل ماكرون في فرنسا.
إذ يتبيّن أن تركيز الاهتمام على التضخم ساهم في خفضه، لكنه لم يغيّر شيئاً في الواقع المعيشي، فالأميركيون والبريطانيون والفرنسيون.. يشكون مِن أن أسعار الضروريات الأساسية (الطاقة والنقل والسكن والغذاء..) ما تزال أعلى من مؤشرات هبوط التضخّم. لذا عاد الجدل في البلدان الثلاثة إلى موضوع الفشل في إدارة أزمة تفشّي وباء «كوفيد - 19» وما تلاها من اختلال في سلاسل الإمداد، وما سبّبته أيضاً حرب أوكرانيا وتداعياتها، بالإضافة إلى إشكاليات المنافسة مع الصين
*كاتب ومحلل سياسي - لندن