يسيطر بعض الجهات في المشرق وإفريقيا، وبين شبابها خاصةً مزاجٌ خلاصيٌّ يتمثل في مغادرة ثقافة الدولة والاستقرار والتنمية وسلامة الإنسان والعمران، والاتجاه إلى النزعات القتالية التي تتخذ شكل تنظيماتٍ مسلَّحة تحمل شعاراتٍ قتالية، وما عادت تقتصر على الصراع على فلسطين بل تنتشر في بلدان الشرق الأوسط وغرب أفريقيا وشرقها.
ويذهب المراقبون والمحللون إلى أنّ العلّة في ذلك عدم وجود ثقافة الدولة أو تأثيرات حقبة الاستعمار أو الصراع الاستراتيجي بين الدول الكبرى والوسطى. لقد كان يمكن التفكير بصحة هذه التعللات لولا أنّ هذه البلدان جميعاً مرت بحقبة استقرارٍ تزيد على نصف القرن. وفي تلك الحقبة كانت تحدث انقلاباتٌ عسكريةٌ تغيّر الحكومات والأنظمة، لكنها لا تهزّ الاستقرار ولا تثير الانقسامات الرأسية التي تشهدها أخيراً بعضُ البلدان. والملاحظ أنه حتى التدخلات الدولية تَحدث بعد أن تكون الاضطرابات قد بدأت وتصاعدت، وسعت سائر الأطراف المسلَّحة إلى الاستنصار بالخارج. لذا لا يمكن الذهاب باستمرار إلى أنّ الدول الكبرى هي التي صنعت الاضطراب والاقتتال واستثمرت فيه.
أما التعليل بالحقبة الاستعمارية فيحول دون الاقتناع به أن بلدان الاضطراب، وبعد جلاء الاستعمار، استقرت كما ذكرنا وحقق بعضُها إنجازاتٍ تنمويةً.. فمِن أين أتت ثقافة الميليشيات المدمِّرة؟ تذهب الإنثروبولوجيا الاستعمارية إلى أنّ مجتمعاتنا انقسامية بطبيعتها، وهذا يسهّل حدوث الانقسامات والانشطارات عندما تضعف السلطة المركزية أو تخطئ في التعامل مع إحدى الفئات العشائرية التي تثور إذا أتيح لها ذلك، بحجة سوء المعاملة، أو تطلب الاستقلال. ومن المؤكد أنّ اعتبار الانقسامات هي من طبيعة المجتمعات أمرٌ غير صحيح. إنما الذي لا يمكن إنكاره أن الحركات الخلاصية تستثير هذه الفئة أو تلك. والخلاصيات هذه كانت قوميةَ الأيديولوجيا ثم صارت تحمل شعاراتٍ إسلامويةً.
وفي الحالتين ينشب النزاع العنيف، وتتدخل الجهات الخارجية القريبة والبعيدة. وبالحرب الداخلية لا يحقق فريقٌ ما يطمح إليه، لكنّ هذا التنظيم أو ذاك يصبح أبدياً، ويعمد الخصوم المنافسون إلى إنشاء تنظيماتهم الخاصة فيبدو هذا الاحتراف الميليشياوي كأنما هو حركة ثوران ديني تستثير الجمهور لأهدافٍ مقدسة أو ما شابه ذلك!
لماذا هذه القابلية للاختراق من جانب الخلاصيات المزورة؟ هذا هو الأمر الذي ينبغي التفكير فيه أو نعود إلى مقولات «الطبيعة العنيفة للإسلام»!
لا بد من الخروج من المزاج الخلاصي الوهمي المتمثل في نشوب الاقتتال الداخلي أو نشوب الاقتتال مع الغرب (الاستعماري!). وبعد كل مذبحة يتبين أن التغيير لم يحصل، وأن الدماء سُفكت، وأن الدول التي تنطلق منها أو إليها الهجمات قد تضاءل استقرارها وانقسم شعبها، وشاع فيها القتل والتدمير.
هل هي ظاهرةٌ خاصةٌ بالإسلام أم بمجتمعات معينة في أفريقيا والشرق الأوسط؟ لقد كانت ظواهر متفرقة، لكنها في العقدين الأخيرين صارت سلسلة تمتد ولا تتوقف، وإذا بدأت إحدى حلقات السلسلة فإنه يتعذر انتهاؤها.
وكما سبق القول، عندما تحدث إحدى الحلقات، تسارع الميليشيات وتسارع الدول الكبرى والإقليمية إلى التواصل فيما بينها لإطالة أمد الاقتتال وتعريض الأوطان والناس والهياكل التي بُنيت على مدى عقود لأخطار الانقسام والدمار.
إنّ هذه المعالم أو الأوصاف تُظهر الميليشيات الخلاصية كأنما وُلدت لتبقى وكأنها جزء من عيش المجتمعات والدول، والأمر ليس كذلك.. ولا حلَّ إلا بالدولة الوطنية القوية التي تحقق الاستقرار والتنمية وصنع المستقبل الواعد لشعوبها وجوارها.
* أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية