هناك اختلاف جوهري في مفهوم «الحرية» التي ينبغي أن تسري في عروق الإعلام بمختلف العوالم، كجزء من وسائل نشر الوعي في المجتمعات البشرية، ويبقى الجوهر هو حس المسؤولية المهنية تجاه الجمهور وتجاه قضايا المجتمع. ومكمن الخطر في هذه الحرية يتمثل في نسبيتها، وأيضاً عدم استقرارها عند منحنى معين.

بين الفجوة والجفوة، فالحرية حتى لدى مدعيها في الغرب بدأت تترنح كتأرجح من غاب عقله في مشيته وتلفظه بأشياء في المساء يندم عليها في الصباح ويصر على إنكارها. حتى في دول العالم الثالث، بدأ اتجاه يشي بعدم جدوى قولبة الإعلام في وزارات متخصصة، وبات الأداء الإعلامي له أطر تنظمها القوانين والمواثيق التي تراعي مصلحة المجتمع وتصون استقراره.

ومع الطفرة التقنية، وظهور منصات الإعلام الرقمي، ظهرت تحديات جديدة، منها غياب المسؤولية لدى بعض الناشطين على هذه المنصات التي تعكس اتجاهات فردية غير مؤسسية، وفي هذه الحالة يصبح القانون هو الأداة التي تحمي المجتمع من مخاطر الانفلات والإسفاف.

مع تطور الإعلام في العالم أجمع من دون تحديد، وانفتاحه على الفضاء السيبراني، أصبحت الحرية المسؤولة قاسماً مشتركاً ينبغي أن يكون ناظماً للمهمة الإعلامية وموجهاً لها. أما في العالم المتقدم، فإن الوضع غير قابل للمقارنة مع العالم الذي قبله، لأن عملية المقارنة هنا ظالمة للطرفين، مع إقرارنا، بأن مساحة الحريات أيضاً نسبية ولكن لا زال سقفهم أعلى، وإنْ لم يكن الوضع كالسابق، وخاصة بعد تحول بعض وسائله من الحياد إلى الانحياز، وفي هذا تراجع ملحوظ، منذ متابعتنا لأداء الإعلام في الغرب لنصف قرن مضى، بالرغم من عدم وجود أجهزة رقابية مباشرة على كافة وسائل الإعلام في شتى صوره التقليدية والمعاصرة.

فمن كان يدور في خلده، بأن فترة ترامب الرئاسية، لم تحتمل قوة أو سلطة الإعلام الأميركي، بل إن ترامب وصف الإعلاميين بأنهم مجموعة كذبة ومفترين لأول مرة في تاريخ أكبر ديمقراطية في العالم وهي التي ترسل الجيوش لفرض إرادتها بالخارج.

في عالمنا العربي والإسلامي كان لقب الإعلام والصحافة في فترة سابقة، صاحبة الجلالة أو السلطة الرابعة، ومن بعد حلول بعبع «الربيع العربي»، أدت موجة الانفلات الفكري والمفاهيمي وطوفان الشعارات الوهمية إلى تشويه صورة «صاحبة الجلالة»، وبدلاً ما كانت «سلطة رابعة» أصبحت أداة لإثارة التوترات، وباتت محل نزاع وجدال.

مناقشة قضايا الأمة الجوهرية هي الهدف الأسمى للإعلام، لكن الطفرة التقنية جعلت بعضهم يجري وراء «المشاهدات»، التي قد يحصدها إنقاذ فأر سقط في حفرة بأقصى الأرض، وخلق «تريندات» حول الهوامش وتغييب جواهر الأمة في زوايا النسيان، الاهتمام بقضايا المجتمعات يحتاج وعياً كبيراً بالمسؤولية، والالتزام ببوصلة الحرية المسؤولة.

*كاتب إماراتي