قبل بضعة أشهر، بدا أن الرئيس جو بايدن قد سئم من تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دعواته لضبط النفس في قطاع غزة، حتى أنه بدا صارماً في النهاية. وفي شهر مارس، سُئل بايدن عما إذا كانت دعواته لإسرائيل بعدم اجتياح مدينة رفح جنوب قطاع غزة تمثل «خطاً أحمر»، مما يعني أن الاجتياح سيؤدي إلى عواقب وخيمة؟
فقال: «إنه خط أحمر، لكنن لن أترك إسرائيل أبداً». لم يكن من الواضح ما الذي يشير إليه هذا الجواب، ربما حتى بالنسبة لبايدن. لكن باعتباري شخصاً معجباً بسياسة بايدن الخارجية، أردتُ أن أعتقد أن الرئيس كان يعني أن الاجتياح الإسرائيلي لرفح سيؤدي إلى تعليق عمليات نقل الأسلحة الهجومية، لكن دون انقطاع الأسلحة الدفاعية مثل الحماية ضد الصواريخ القادمة.
وفي أبريل، اتصل بايدن بنتنياهو وحثه على وقف إطلاق الناربشكل فوري، ووفقاً لإعلان البيت الأبيض، فقد «أوضح حاجة إسرائيل إلى إعلان وتنفيذ سلسلة من الخطوات المحددة والملموسة والمدروسة لمعالجة الضرر الذي يلحق بالمدنيين والمعاناة الإنسانية وسلامة عمال الإغاثة». وتابع البيان: «سيتم تحديد سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بغزة من خلال تقييمنا للإجراء الفوري الذي ستتخذه إسرائيل بشأن هذه الخطوات».
وفي شهر مايو، بدا أن بايدن قد وضع مرة أخرى خطاً أحمر. وقال لشبكة «سي إن إن»: «إذا ذهبوا إلى رفح، فلن أقوم بتزويدهم بالأسلحة» المستخدمة ضد المدن. ويبدو أن كل هذا يشير إلى استعداد بايدن المتأخر للوقوف في وجه نتنياهو وتجنب وقوع كارثة إنسانية في رفح. وبعد حثه على نطاق واسع على بذل المزيد من أجل الفلسطينيين في غزة، بدا أن بايدن جعل المساعدة مشروطةً لدفع إسرائيل إلى إغراق القطاع بالمساعدات، وتجنب اجتياح رفح، والتوقف عن قتل عمال الإغاثة والتحرك نحو وقف إطلاق النار. وفي الفترة التي تلت تلك المكالمة الهاتفية الصارمة، في أبريل، سمح بايدن مرة أخرى لنتنياهو بالتغلب عليه. فقد قامت إسرائيل باجتياح رفح، وانخفضت إمدادات الغذاء التي تصل إلى الناس في جنوب غزة. وقُتل ما لا يقل عن 15 من عمال الإغاثة في غزة. وواصلت إسرائيل التفجيرات المتهورة مثل تلك التي أشعلت النار في مخيم في رفح، مما أسفر عن مقتل العشرات.
والآن، وبعد أن تم تجاهل خطوط بايدن الحمراء والوردية، ما الذي يخطط له الرئيس بعد ذلك؟ تمضي الإدارة قدماً في بيع طائرات مقاتلة من طراز «إف-15» إلى إسرائيل بقيمة 18 مليار دولار. ليس لديّ أي اعتراض على البيع من حيث المبدأ، لكن التوقيت يرسل إشارةً مفادها أنه لا توجد عواقب لتجاهل بايدن. قال «جيريمي كونينديك»، المسؤول السابق في الإدارة ورئيس منظمة اللاجئين الدولية: «ما أظهره بايدن لنتنياهو مراراً وتكراراً هو أنه سيهدده لكنه لن ينفذ تهديده». لقد بدأت هذه الحرب عندما تعرضت إسرائيل لهجوم مروع، وكان لها كل الحق في ضرب «حماس»، لكن ليس تدمير أحياء بأكملها وتسويتها بالأرض أو تجويع المدنيين حتى الموت.
لقد مكّن بايدن نتنياهو ووفر له الحماية في الأمم المتحدة حتى في الوقت الذي خلصت فيه لجنة تابعة للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل مسؤولة عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويبدو أن بايدن كان يعتقد في البداية أنه يستطيع التأثير بشكل أفضل على نتنياهو وكبح جماحه من خلال تقريبه منه.
ومن الإنصاف القول إن هذا النهج نجح إلى حد ما، فإسرائيل لم تغزُ لبنانَ في الخريف الماضي، كما كانت تفكر، وبدا اجتياحها لرفح أكثر اعتدالاً من غزوها لمدن غزة الأخرى. ويقول عمال الإغاثة إنها سمحت أيضاً بدخول المزيد من الغذاء إلى شمال غزة. لكن خلاصة القول هي أن سياسة بايدن في غزة ساعدت نتنياهو على البقاء في السلطة دون تعزيز المصالح الأمنية لإسرائيل على المدى الطويل. لقد سخرت الحرب من حجج بايدن بأن الولايات المتحدة تدعم «النظام الدولي القائم على القواعد»، وبالتالي قوضت موقفها في أوكرانيا.
في هذه الأثناء، وفي عرض ملحوظ لعدم امتنان للرئيس الذي كان بمثابة شريان حياته، استخدم نتنياهو مقطع فيديو باللغة الإنجليزية لانتقاد إدارة بايدن لكونها غير داعمة بشكل كافٍ، بينما يستعد لتجاوز البيت الأبيض والتحدث أمام الكونجرس. نحن نعلم جميعاً أن الدبلوماسية تنطوي على الشدة واللين. فإذا لم يأخذ نتنياهو بايدن على محمل الجد، فذلك لأن بايدن يتحدث في الغالب بهدوء ويلجأ إلى اللين بشكل كبير. وبعد هجوم نتنياهو الأخير على إدارة بايدن قبل أيام قليلة، رد البيت الأبيض بأنه وجد تصريحات رئيس الوزراء «مخيبة للآمال للغاية». ومن المؤكد أن هذا قد لقن نتنياهو درساً. إذا أظهر بايدن أن خطوطَه الحمراء لا معنى لها في غزة، فلماذا تجده روسيا أو الصين أو إيران ذا مصداقية؟
وإذا كان خجولاً للغاية بحيث لا يستطيع مواجهةَ حليف يعتمد على الأسلحة الأميركية، فما السبب الذي يجعلنا نعتقد أنه سيواجه منافساً؟ المفارقة أن بايدن كان يتمتع بشكل عام بسياسة خارجية ناجحة، خاصة في تشكيل تحالف في آسيا للحد من مخاطر الحرب مع الصين. ومع ذلك فهو يجد نفسه الآن غارقاً وسط فوضى في الشرق الأوسط يمكن أن تزداد سوءاً. وقد تستمر الحرب في غزة على مستوى أدنى لبقية هذا العام، حيث تشير إسرائيل إلى مهاجمة «حزب الله» في لبنان في الأسابيع المقبلة، الأمر الذي قد يؤدي إلى حرب منفصلة قد تكون أكثر كارثية.
ومن جانبه، يحاول بايدن منع نشوب حرب في لبنان، لكن الطريقة التي يظهر بها الضعف أمام نتنياهو تحد من نفوذه. أدركُ أنه من السهل كتابة هذه الأعمدة المهمة، وأنه من الأصعب بكثير التعامل مع سياسة العالم الحقيقي. إن مجال الدبلوماسية يواجه دائماً مشاكلَ أكثر من الحلول، والسياسة الأميركية ومراوغة نتنياهو تجعل الأمر أكثر تعقيداً. ومع ذلك، وبعد تسعة أشهر من الرعب المتواصل في الشرق الأوسط، يجب على بايدن أن يدرك أن سياسته في غزة هي فشل أخلاقي وعملي وسياسي لم يساعد أحداً سوى نتنياهو.
نيكولاس كريستوف*
*صحفي وكاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»