بيروت عروس الشرق وسيدة المدائن.. وقد قيل فيها الكثير، شعراً ونثراً. عبر التاريخ، كانت بيروت ملاذاً للشعراء والأدباء والمفكرين وحضناً للزوار.. فيها تُطبع الأعمال الإبداعية للنخب العربية، وفيها تُنتَج أفضل الأعمال الدرامية. إنها التربة الخصبة للإبداع وحرية الرأي والتعبير والتعايش بين كل المكونات والآراء والاتجاهات.. تفتح ذراعيها للزوار والسياح والحالمين من كل صنف، حتى أصبحت جنة لقاء المبدعين من كل حدب وصوب.

بيروت موئل الشعر والشعراء، والأدب والأدباء، والثقافة والمثقفين، والفن والفنانين، والفكر والمفكرين.. أرض الأمل والتفاؤل وصناعة الترفيه الراقي.. أرض الأَرز والبحر والجبال والسهول الخضراء ووديان المياه العذبة. إنها نصري شمس الدين وفيروز ووديع الصافي والرحابنة وسعيد عقل وحسن كامل الصباح والمتحف الوطني وقلعة صيدا وساحة الشهداء، ورسومات «ستافرو جبرا» الساخرة ومجلتا «الصياد» و«الشبكة»، حيث كان شباب الكُتاب على امتداد العالم العربي يحلمون بالكتابة على صفحاتهما الصقيلة.. بيروت ومقاهيها الشعبية وطقوس زبائنها المتواصلة على مدار الساعة. تلك بيروت التي نعرفها، عاصمة الجمال والفكر والأدب والأزياء والنزهة، العاصمة التي تصحو على صوت فيروز في كل أرجائها، ليتبعها وديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات.. بيروت بصورتها الجميلة في ذاكرة العرب جميعاً، كانت ملجأً عروبياً كبيراً يستقبل ويأوي الجميع ويؤمِّن لهم الحمايةَ والأمان.. وذلك حين كان لبنان منارةَ إشعاع حضاري ورقي إنساني مرموق على مستوى العالم كله.

بيروت التي في الوجدان، وكما عرفناها في أيام الزمن الجميل، مختلفة جداً عن بيروت الحالية، حيث غاب عن رواد المقاهي باعةُ الورود للعشاق والمحبين والطقوس المرتبطة بالمناسبات الجميلة، وبات يلوث الأسماعَ من حولك مارةٌ يتبادلون السباب والكلمات البذيئة التي تعكس حالة من الاحتقان تصيب المزاجَ الجمعي للمجتمع نتيجة معاناته من ضيق المعيشة وتردي الحياة الاقتصادية وتناحر القوى السياسية والاصطفاف الطائفي الذي أدى إلى إضعاف اللحمة الوطنية وتفكك البناء الداخلي.. وسط انهيار للاقتصاد وتفشٍ للفساد، وقد أدى كل هذا إلى هروب رؤوس الأموال، لتسود حالةٌ من التخبط والتشويش ونتيجة الدور الذي تحاول الغوغائية أن تفرضه في صناعة القرار. تلك هي حالة لبنان وما آل إليه حال اللبنانيين ونمط الحياة بشكل عام في بلاد الأرز، حيث تتوالد عوامل الانقسام والتناحر، حتى باتت الحكومة مكتوفة الأيدي أمام تغول القوى الطائفية التي تأخذ لبنان بعيداً عن محيطه العربي للسير به نحو المجهول، بعيداً كذلك عن مؤسسات الدولة اللبنانية، رغم محاولات الدول العربية إعادة لبنان إلى مكانته الطبيعية ودوره العربي.

اختفت قوافل الشعراء والروائيين والصحفيين والمفكرين التي توافدت على بيروت طوال عقود من الزمن، ولم يعد الزائر يرى صورَ فيروز ووديع الصافي ونجاح سلام وسعيد عقل.. لتتربع بدلاً منها صور المعممين وشعارات الأحزاب الطائفية.. في بلاد الأرز التي كانت بمثابة الرئة التي يتنفس بها العرب طوال عقود، قبل أن تهبّ رياح عصر آخر غير عصر الألق البيروتي!

*كاتب سعودي