نعيش اليوم في عصر مختلف عن أي عصر عاشه الإنسان، حيث نتقاسم العيش على هذا الكوكب في تشاركية لم يسبق أن شهدت البشرية مثلها من قبل، وهي تشاركية اتصالية وتواصلية غيّرت مِن معنى الاختلاف الثقافي والفكري والجغرافي حتى، سواء أكان هذا التغيير من باب التبدل الذي طرأ على فكرة الحواجز الحدودية، أو كان منصباً على تغيير الشكل والدلالة المعتادة بالنسبة للكثيرين. 
وعند النظر لهذه المعطيات في سياق الحديث عن التطور المعرفي والعلمي، فإننا نجد أن هناك الكثير من السبل التي وجدت ولاتزال تتطور وتتغير وتتحور لتتجه أكثر فأكثر نحو المزيد من خدمة الإنسان، وتسخير المتاحات كافة لجعل حياته بمختلف تفاصيلها أكثر يُسراً ومرونة واستجابةً للتطلعات. 
في ذات الوقت الذي ساعدت فيه التطورات الرقمية والمستحدثات المتسارعة في مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومتعلقاته على تجاوز نسبة كبيرة جداً من الصعوبات والتحديات السابقة، لاسيما في مجال تحصيل المعلومات وبناء المعارف، فإن ذلك بطبيعة الحال صاحَبَه عددٌ من الإشكاليات والجدليات التي ولَّدت اهتماماتٍ جديدةً لأصحاب السعي العلمي والبحثي، حيث شكَّلت ملامح وأدوات ووسائل وتطبيقات الكثرة والمبالغة في السهولة والمرونة، إلى ولادة تحديات جديدة تتعلق بالمعرفة وأدواتها وطبيعة الوسائل التي يمكن أن تجتمع مؤديةً لمعرفة جديدة. وفي صدد ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسَه: هل نحن الآن في عصر سخاء المعرفة أم تشتت المعرفة؟
إذا كان هناك مَن يرى أن التشتت المعرفي هو عنوان المرحلة، فذلك يعود إلى عشوائية وزخم انتشار أنواع وألوان وأصناف المعارف على مختلف التطبيقات والوسائل التي يستخدمها إنسان اليوم، وهو الأمر الذي يؤدي لإنتاج مكتسب ثقافي لدى الإنسان، لكن هذا المكتسب يتميز بالعشوائية والكثرة غير المنظمة، إلى جانب ما يوفره تعدد خيارات المصادر ومحركات البحث التي تتيح لنا المعلومات، وما لذلك مِن تأثير مباشر على القدرة الإنسانية فيما يتصل بالإرادة والشغف الموجهين للاستزادة المعرفية، والتي كانت قبل وجود هذه الوسائل تدفع بإرادة الإنسان للانتقال من مشارق الأرض إلى مغاربها للحصول على المعلومة، ما يدل على قيمة العلم ومستوى الشغف الذي كان يتشبث به الإنسان من أجل تطوير مكتسباته المعرفية حينما كانت الوسائل والأدوات شبه معدومة، إلا تلك المنوطة بسعي الإنسان الذي يتطلب منه جهداً ووقتاً كبيرين، وهو السبب الذي حد مِن طموح الكثير من أصحاب الهمة العالية في المجال البحثي والمعرفي والثقافي والفلسفي لقلة الإمكانات في ذلك الوقت. 
وإذا اعتبرنا أن التشتت الذي هو وفرة المعلومات وكثرة مصادرها ووسائلها، ليس إلا أسلوب اكتساب المعرفة، وأن ما وجد اليوم من أدوات ووسائل هو سبيل يسَّر على الإنسان طريقه المعرفي، وفتح العديد من المجالات والأبواب التي يمكن من خلالها زيادة رصيده الثقافي، فإن ذلك يحتاج التأكيد على ما وفّرته التقنية من سهولة في الحصول على أدوات تحصيل المعلومات، وما وفرته على الإنسان من مستلزمات كانت ضرورية قبل ظهور التقنية وتطورها، مثل تلك التي تتعلق بالجهد والوقت والمال. 
وهكذا يمكن القول بأن الوفرة في الأدوات والتقنيات الحديثة لا يمكن اعتبارها إلا مصدراً للتشتت وتراجع منهجية تحصيل المعرفة، طالما أنها افتقرت إلى إطار منظِّم، وثقافة كافية تعمل على توجيه السلوك الإنساني على المنصات والمواقع بدلاً من تركه حائراً بين مئات وآلاف النوافذ الرقمية التفاعلية، دون مرجعية ثقافية كافية، مشبعة بالكفاءة المهارية، ومطلعة على التنظيم القانوني والتشريعي الحاكم لها، بحيث يكون عنوان تلك الرحلة المعرفية: «استزادة رقمية واعية ومنظمة». وهذا ما سيؤول لاحقاً لإحداث تغيير فعلي ربما على محركات البحث نفسها، أو المواقع وطبيعة تصنيفها من حيث الاختصاص والتوجه، وقبل ذلك كله تكوين صورة واضحة لدى الطالب والباحث والمثقف والمفكر عن طبيعة استخدام المصادر المتاحة في الفضاء الرقمي، وكيفية ذلك وحدوده في الوقت ذاته. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة