قلما يتسارع النبض ويزداد الترقب في موسم الانتخابات في أوروبا. ففي المواسم الخمسة التي غطيتُها منذ 1999، كانت بروكسل صاخبة وتعج بالأحاديث. ولكن المواطنين، أي الأشخاص المكلفين بالتصويت واختيار أعضاء البرلمان، يبدو أنهم لم يكونوا يكترثون لها كثيراً، إذ كانت لا تعدو أن تكون مجرد فضول بالنسبة لهم، في أحسن الأحوال، وإزعاجاً يجب تجنبه، في أسوئها.
ولكن ليس هذه المرة. إذ تثير انتخابات هذا العام، التي جرت من الخميس إلى الأحد في كل الدول الأعضاء الـ 27، اهتمام الأوروبيين عبر القارة. وقد لمستُ شخصياً اهتمامهم ووقفت عليه بشكل مباشر. فخلال الأشهر القليلة الماضية، تحدثتُ في هولندا وفرنسا وسويسرا وجمهورية التشيك والعديد من البلدان الأخرى مع مجموعات من الطلبة والمتخصصين والمستثمرين - ولكن في أكثر الأحيان مع المواطنين العاديين. 
فكانوا يستمعون بانتباه شديد، وبالكاد يعبثون بهواتفهم. وحينما يحين وقت الأسئلة، كانت ترتفع أيدي الكثيرين. فالجميع مهتم بالقصة الأكبر: ما إن كانت أوكرانيا ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي، وما الذي يمكن فعله حيال صعود النزعة غير الليبرالية، وكيف يمكن تحقيق أمن القارة. والأهم من ذلك كله هو أنه كان لديهم فضول بشأن تعريف أوروبا وإلى أين تتجه.
ولكن، ما الذي يحدث هنا؟ لماذا أصبحت السياسة في بروكسل مثيرة وجذابة فجأة، بعد أن كان يُنظر إليها دائماً على أنها مملة وتكنوقراطية؟ الإجابة حتمية بقدر ما هي مفاجئة. فمع الانجذاب المتزايد للمواطنين إلى الحياة السياسية للقارة، بدأ العجز الديمقراطي في أوروبا يختفي تدريجياً. ووسط أجواء الكآبة والتوجس على خلفية تقدم اليمين المتشدد، أخذت قصة أخرى تتكشف بعيداً عن الأنظار تقريباً: قصة أوروبا أخذت تنبض بالحياة. 
الأمر المهم هنا هو أن التأييد لعضوية الاتحاد الأوروبي بين المواطنين آخذ في الازدياد. ففي استطلاع للرأي أجري مؤخراً في الدول الأعضاء، قال 74 في المئة من المستجوَبين إنهم يشعرون بأنهم مواطنون في الاتحاد الأوروبي - وهو أعلى مستوى منذ أكثر من عقدين. وقبل عامين، قال 72 في المئة منهم إن بلدهم استفاد من عضوية الاتحاد الأوروبي، مقارنة بـ 52 في المئة فقط في 2005. هذا لا يعني أن الأوروبيين أصبحوا فجأة سعداء بالاتحاد وراضين عن طريقة عمله، ولكن من الواضح أنهم أكثر سعادة داخل الاتحاد الأوروبي منه خارجه. 
ويبدو أن نسبة المشاركة في الانتخابات آخذة في الارتفاع أيضاً. فبعد الانتخابات الأوروبية الأولى عام 1979، والتي صوّت فيها قرابة 62 في المئة من المواطنين، انخفضت نسبة المشاركة بشكل مطرد، إذ انخفضت إلى أكثر من 42 في المئة بقليل في 2014. ولكنها في 2019 ارتفعت للمرة الأولى إلى قرابة 51 في المئة. ويبدو أنها تتجه للارتفاع مرة أخرى هذا العام - مما يوحي بأن الارتفاع في 2019 لم يكن حالة شاذة وإنما بداية اتجاه جديد. وفي الأثناء، قدّر استطلاع رأي نسبة المشاركة في انتخابات هذا الشهر بـ 68 في المائة، أي أعلى بتسع نقاط من المرة السابقة.
وهذا لا يحدث من فراغ. ذلك أنه رد فعل على حقيقة أن أوروبا لم تعد محاطة بـ «حلقة من الأصدقاء»، وإنما بـ «حلقة من نار» - على حد تعبير رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلدت. فالعالم من حول أوروبا أصبح يموج بالاضطرابات في السنوات الأخيرة، مما يهدد حدودها وسلامها واقتصادها المفتوح. وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ورئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، والحرب في أوكرانيا... كلها أمور صدمت الأوروبيين وهزّتهم حتى النخاع. 
ولأنهم يشعرون بالضعف والانكشاف، لجأ الأوروبيون إلى قادتهم بحثاً عن الحماية. والقادة الوطنيون، الذين يتخذون كل القرارات المهمة في بروكسل، استجابوا لذلك. ذلك أنهم باتوا يدركون الآن أنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وإدارة الجائحة ومواجهة المنافسة الاقتصادية من الصين وأميركا إلا إذا اتحدوا وعملوا معاً. ولهذا الغرض، بدأوا في الاشتغال على الدفاع الأوروبي والصحة والطاقة وغيرها من القضايا التي كانت دائماً قضايا وطنية بحتة.
هذه الصدمات الخارجية كان لها تأثير مهم آخر. ذلك أنها أقنعت اليمين المتشدد بوضع خططه لمغادرة الاتحاد الأوروبي جانباً، بعد أن أدرك زعماء مثل مارين لوبين في فرنسا وخيرت فيلدرز في هولندا أنه سيكون لديهم الكثير ليخسروه لوحدهم خارج الاتحاد. فاختاروا الاقتداء برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي يستغل عضوية الاتحاد الأوروبي كوسيلة للضغط والمناورة. كما أنهم يرون كيف تحولت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وجعلت حزبها ضمن تيار الأحزاب المعتدلة الرئيسي، إلى «صانعة ملوك» في أوروبا.
وعوضاً عن انتقاد بروكسل من داخل بلدانها، أخذ قادة اليمين المتشدد يتقدمون الآن إلى الساحة الأوروبية، على أمل تغيير المؤسسة من الداخل. واستبدلوا خيار «الخروج» بخيار «الصوت»، على حد وصف الخبير الاقتصادي ألبرت هرشمان. وقد يكون هذا بالطبع خبراً سيئاً، إذ يبدو أن الأحزاب الوسطية في أوروبا غير جاهزة للتعامل مع تحدي اليمين المتشدد على المستوى الأوروبي، كما هو الحال على المستوى الوطني. 
غير أن هذا التطور ينطوي على جانب إيجابي: ذلك أن الشعبويين يضفون بعض الدراما على الحياة السياسية الأوروبية لأنهم يأتون إلى بروكسل حاملين معهم إهاناتهم، وتبسيطهم المفرط، وأخبارهم المزيفة. والواقع أن مشاركة المرشحين المحسوبين على تيار اليمين المتشدد في المناظرات تحظى منذ مدة بكثير من الاهتمام والمتابعة. ولا غرو في ذلك، فهي صاخبة وقبيحة وبذيئة – أي بالضبط الساحة الذي لطالما كانت لدى الحياة السياسية في القارة على المستوى الوطني، ولكن ليس على المستوى الأوروبي.
هذا المشهد قد لا يعجب البعض، ولكن هذه هي الديمقراطية: تنافس بين الآراء السياسية يتم أمام المواطنين الملتزمين. فليس هناك ما يضمن أن الخلافات والاضطرابات المحتملة القادمة ستنحو على النحو الذي تشتهيه سفننا، غير أنها ستعمل على الأقل على تقريب المواطنين أكثر من الحدث وتبث في القارة بعض الروح الديمقراطية. والأمل هو أن تستفيد أوروبا من ذلك على أحسن وجه.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»