حملت رياح التحولات معها الكثير من الظروف المستجدة التي لا تنفك تثبت حضورها القوي والمتغير بديمومة متسارعة آخذةً معها الكثير من ما يمكن تسميته «الكنز القديم»، لتعود الحضارة الإنسانية، وبكل ما أوتيت من ملامح حداثية لتبحث عن آثار ذلك الكنز الذي أُهمل مراراً وتكراراً في طور التحول نحو مرحلة جديدة.
وربما تعتبر الأخلاقيات المتصلة بالمعارف والحقوق والسلوكيات ومختلف مجالات الحياة الإنسانية، هي إحدى أثمن الجواهر التي فقدت سطوعَها وتعرضت للكثير من عوامل التعرية، رغم أن هذه الجانب يمثل بعداً رئيسياً في تقييم مستوى تطور أي أمة من الأمم ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمستوى العلمي والمعرفي البحثي. 

وعلى الرغم من الريادة والمواكبة التكنولوجية المتطورة التي أدخلت إلى الأقسام العلمية والأدبية واستخدمت كاستثمار حقيقي في الارتقاء بالأدوات التعليمية ورفع كفاءة الجودة في التعليم، فإن عملية الحصول على المعلومات وبوصف أدق للرحلة التي يقطعها أي إنسان منا في الوقت المعاصر تفتقر في الكثير من الأحيان لحلقة بنيوية غاية في الأهمية، وخاصةً أننا نجد اليوم توجهاً قوياً نحو المعرفة، لكنه ليس من أجل المعرفة لذاتها بل كوسيلة للوصل إلى هدف يتمحور في مجتمعاتنا حول النفع المادي والمستوى المعيشي المترتب عليه.
إن التخطيط الجيد الذي يحاول الآباء إتقانه من أجل إنجاح أبنائهم ورؤيتهم في المستقبل كأشخاص قادر على إدارة أنفسهم، هو شيء يتمناه الجميع، مع أن التحولات والأزمات العالمية كلها بلا استثناء كانت وما تزال تنذر البشرية حول ضرورة الوقوف على معاني سامية تؤمن بالمشترك الإنساني وتصب في ينابيع التصور الأخلاقي للتعايش والتفاهم والتسامح وحب العلم من أجل العلم، وجني المعرفة من أجل المعرفة، أي المعرفة لذاتها. وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال «صناعة إنسان» يؤمن بأهمية وجوده على وجه الكرة الأرضية ويمتلك بداخله يقيناً قوياً بقدرته على إحداث التغيير على المستوى الشخصي والاجتماعي الضيق وعلى المستوى المجتمعي والدولي والعالمي الواسع. وقد أثبت ذلك العديدُ من النخب العلمية المتميزة ذات العقل الراجح التي لم تكتسب هذه الألقاب إلا حينما آمنت بذاتها وانطلقت في رحلة «المعرفة من أجل المعرفة»، والتي لا تتنافى البتة مع وجود أهداف أخرى تعين الإنسان على استكمال حياته بكرامة واكتفاء.
لا نبالغ إذا ما وصفنا هذه الجوانب بأنها إحدى اللبنات المهمة في بناء نظام عالمي إنساني، فالسعي لتحصيل المعرفة من أجل المعرفة يتقاطع مع مفاهيم وقضايا شغلت بال المفكرين والفلاسفة، مثل الفردانية، والفردانية المتطرفة، وحدود حرية الرأي والتعبير، والعنف ضد المرأة، وغيرها من القضايا الإنسانية المحورية التي ننقب عنها فنجد أنها تنحدر في سلالياً من جدها الأكبر (الأخلاق) الذي لا يجوز أن يفنى، ويجب أن نسعى لعلاجه إذا ما أصابه المرض.
وفي حين أنه لا يخفى الجهد الكبير التي تمارسه الدول في قطاعها التعليمي بشكل خاص من نشر لحب القراءة والمطالعة والاكتشاف والإبداع والابتكار، حيث تعد دولة الإمارات مثالاً بارزاً في هذا المجال. ورغم هذا الجموح المادي الذي يجتاح العالم، فإن أي مجتمع يتفوق أخلاقياً ينتزع إعجاب الجميع.
والسؤال هو: كيف يمكننا بناء منظومة أخلاقية تشترك في المرحلة التمهيدية البنيوية لدى الأجيال الصاعدة، بحيث تكون قادرة على دمج الأسس الأخلاقية وروابط الإلهام والنجاح في الحياة مع الإدراك الدقيق لضرورة عدم إيقاف عجلة الرحلة المعرفية للإنسان، وفي ذات الوقت القدرة على التفريق بين القيمة المعرفية العلمية، ومهارة الكسب المادي «النظيف»؟

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة