في مثل هذا الشهر قبل أربعين عاماً من الآن (يونيو 1984)، توفي أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين، ألا وهو ميشال فوكو، عن عمر لا يتجاوز الـ 58، مخلفاً أعمالا فكرية غيّرت جذرياً مسارَ الحقل الفلسفي العالمي. وكنتُ قد صَحِبتُ فلسفة فوكو مبكراً قبل أن أُصدر أولَ كتاب شامل باللغة العربية عن مختلف جوانب فكره (صدرت طبعتُه الأولى في بداية التسعينيات). ومن المعروف أن الفيلسوف الراحل قدّم أهمَّ قراءة متكاملة للنسق الثقافي الغربي في كتابه الأساسي «الكلمات والأشياء» من منظور مفهومه للنظام المعرفي الذي هو نقطة التقاء تشكيلات خطابية متمايزة حول محددات جامعة. كما بلور في كتابه المكمِّل له «حفريات المعرفة» أدوات منهج جديد لتاريخ الأفكار، ينطلق فيه من مقولات القطيعة والانفصال التي برزت في السياق الإبستمولوجي، وإن اعتبرها البعض داخلة في المنظومة البنيوية التي كانت في أوجها خلال ستينيات القرن الماضي.
وإلى جانب هذه الطرق المنهجية في تاريخ الأفكار، قدّم فوكو أهمَّ قراءة نقدية للعقل السياسي الحديث في جوانبه القانونية والإجرائية في كتابيه «المراقبة والعقاب» و«إرادة المعرفة»، مبرِزاً دورَ سلطة الحقيقة والعلم في نظام الضبط والتحكم الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، من خلال استقصاء مفهوم «السلطة الحيوية» الذي طوره مِن بعده الفيلسوفان الإيطاليان توني نغري وجورجيو أغامبن. اهتم فوكو بجوانب جديدة على التفكير الفلسفي، مثل الجنون والسجن والرغبة، محدِثاً ثورةً كبرى في الكتابة التاريخية وفي البحث الاجتماعي والسياسي. في دروسه الأخيرة التي نُشرت مِن بعده، اهتم فوكو بظاهرة النيوليبرالية التي كانت في بدايتها مطلعَ الثمانينيات، ونبّه إلى الآثار التي ستُحدِثها على مستوى النظام الاجتماعي ومهمات الدولة الرعوية، وإن نبَّه في الوقت نفسه إلى الشروخ التي ستتسبب فيها داخل هيكل الدولة القومية الشاملة. ليست هذه الجوانب التي ركز عليها فوكو في السياق الغربي هي التي تهمنا في هذا الحيز، والحال أنه قدّم محاولةً جريئة وشاملة لضبط وتقويم المنظومة المعرفية الأوروبية، حتى لو كان سؤال الخصوصية الثقافية والتاريخية للغرب غير حاضر بوضوح في أعماله (ذكر فوكو لأحد طلبته أن السؤال الوحيد الذي أراد أن يجيب عليه دون أن يتناوله مباشرةً هو: ما هي أوروبا؟).
ما يهمنا هو تأثير فوكو في الفكر العربي، الذي بدأ محدوداً وهشاً، لم يتجاوز في البداية بعض الحضور في الدراسات النقدية واللسانية، خصوصاً في تونس التي درَّس في جامعتها وهو في أوج شهرته الفلسفية. بيد أن التأثير الحقيقي بدأ مع مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في مطلع الثمانينيات، حين وظَّف عدداً من مفاهيم فوكو وأدواته المنهجية في «نقد العقل العربي». لقد استخدم الجابري عبارات «النظام المعرفي» بدوائره الثلاث (البرهان والبيان والعرفان)، كما تحدث عن القطائع الإبستمولوجية بين لحظات التراث العربي، ووجَّه النظر إلى إشكاليات هذا التراث المرجعية على غرار مسلك فوكو. وفي كتابه «العقل السياسي العربي» رجع إلى فوكو في حديثه عن نموذج الرعي في التدبير السياسي مع توظيفه في ثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة التي لا تَخفى جذورُها الخلدونية.
ومع أن محاولة الجابري ظلت جزئيةً ومحدودة، إلا أنها من دون شك هي أهم مقاربة استلهمت منهج فوكو في تاريخ الأفكار عربياً، مع العلم بأن بعض المحاولات الأخرى تلتها في النقد السياسي والمؤسسي للدولة الحديثة من منظور عربي نقدي.وعلى الرغم من الحضور القوي المتواصل لأعمال فوكو في الساحة الفلسفية العالمية، فإن الكثير من الأبحاث الراهنة انتقدت بعض استنتاجاته وآرائه المعروفة، مثل قراءته لديكارت وانبثاق سردية الذاتية في الخطاب الفلسفي الغربي الحديث، وتأويله التاريخي لنشأة السجن في ارتباطه بالممارسة القانونية والقضائية الحديثة، ومقاربته السلطوية الصارمة لنظام الحقيقة بصفته أداةَ إقصاء وتحكم. وقد اعتبر بعضُ المفكرين العرب أن فلسفةَ فوكو أدت دوراً سلبياً في الساحة العربية، بنقدها الجذري للنموذج الليبرالي للدولة الوطنية الحديثة، وبخروجها عن عقلانية الأنوار والعلم الوضعي، إلا أن هذا النقد لا يمكن أن يطال جوهرَ مشروعه الفلسفي الذي قدّم عُدةً نظريةً ومنهجية دقيقة ورصينة لا يمكن تجاهلها. لم يكن فوكو يعتبر نفسَه فيلسوفاً بالمعنى النسقي الشمولي، ولا مثقفاً عضوياً ملتزماً، بل كان يفضّل صفةَ مؤرخ الحاضر ومنزلة المثقف الخصوصي الباحث.. وذلك درس آخر للاستلهام عربياً.
*أكاديمي موريتاني