لم يكن متصوراً منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي في مطلع التسعينيات أن تُطرح مسألةُ الردع النووي ضمن قضايا الدفاع المشترك. فقد حرصت كلٌّ من الدولتين النوويتين فيه، وهما فرنسا وبريطانيا (حتى خروجها عام 2020)، على ضمان الاستقلال الكامل في هذا المجال، على أساس أنه أحد أهم مكونات الردع العسكري في عصرنا. كما أن الغطاء النووي الأميركي لأوروبا في إطار حلف «الناتو» ظل كافياً لضمان أمن دولها ومنحَها قوة الردع التي يُعتقدُ في لزومها. فقد نشرت واشنطن، وما زالت، أسلحةً نوويةً تكتيكيةً في أربعٍ من دول الاتحاد هي ألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا.
ولهذا يبدو إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون استعدادَه لإطلاق نقاشٍ حول استراتيجيةٍ للدفاع الأوروبي تشملُ الردع النووي تحولاً كبيراً في سياسة بلاده، وتفكيراً جديداً في مكونات تلك الاستراتيجية التي ظلت التفاعلاتُ بشأنها محصورةً في تعزيز الدفاع المضاد للصواريخ، وتطوير الأسلحة بعيدة المدى.
وقد أبدى ماكرون هذا الاستعداد في خطابٍ بجامعة السوربون، في 25 أبريل الماضي، ثم في لقاءٍ بمدينة ستراسبورغ الفرنسية يوم الأول من مايو الجاري مع شباب أوروبيين. وقد ذهب في هذا الحوار إلى مدى أبعد مما كان قد بلغه في خطاب السوربون، إذ حذّر من أن أوروبا «مهددة بالموت ما لم تحقق استقلالَها الدفاعي والأمني في مختلف المجالات» بما فيها الردع النووي. كما عبّر بوضوحٍ عن اقتناعه بأن السعي إلى دفاع أوروبي شامل وفاعل لا يتحققُ من غير الضمان الأمني الذي توفرُه القدراتُ النووية، وأن فرنسا تتحملُ مسؤوليةً خاصةً في هذا المجال.
والملاحظُ أيضاً أنه يربطُ هذا التحول في رؤيته لسياسة الدفاع الأوروبي بالتطورات الدولية الأخيرة منذ اندلاع حرب أوكرانيا وتلويح روسيا في بدايتها بالسلاح النووي. لكن المسكوت عنه في طرحه هذا الموضوع هو القلقُ من تغييرٍ في السياسة الأميركية بشأن الضمان النووي لأوروبا إذا فاز دونالد ترامب في انتخابات نوفمبر المقبل.
غير أن السؤال الأساسي الذي تثيرُه رؤيةُ ماكرون هذه هو حول مدى واقعية بناء ردعٍ نووي أوروبي. نظرياً تستطيعُ فرنسا توفير مظلةٍ نوويةٍ للدول الأوروبية. فهي تملكُ نحو 300 رأس نووي حسب تقدير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام «سيبري». وهذا عدد قليلٌ مقارنةً بما لدى روسيا وأميركا. إلا أنه كاف لتحقيق ردعٍ نوويٍ أوروبي. لكن عملياً يبدو هذا الطرح غير واقعي حالياً على الأقل بسبب الوضع الداخلي في فرنسا، وعدم وضوح مواقف الدول الأوروبية تجاه قضيةٍ شديد الحساسية.
داخلياً يرفضُ اليمين واليسار على حدٍ سواء ما يطرحُه ماكرون. ويقود حزبَا «التجمع الوطني» و«فرنسا الأبية»، اللذان يحوزان معاً أكثر من ثُلث مقاعد البرلمان الفرنسي، هذا الرفض. أما على المستوى الأوروبي فيبدو أن دول الاتحاد التي التزمت الصمتَ حتى الآن تنتظرُ الاستماع إلى طرحٍ أكثر تفصيلاً يعتزمُ ماكرون تقديمَه خلال القمة الأوروبية في 27 يونيو المقبل.
وفي كل الأحوال، فالأرجح أن يكون لنتيجة الانتخابات الأميركية أثرٌ كبيرٌ في تحديد مصير رؤية ماكرون الجديدة للدفاع الأوروبي.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية