كتبتُ على هذه الصفحة بتاريخ 19 مارس الماضي مقالة بعنوان «هل يحدث انفلات نووي؟»، وذلك في سياق التعليق على الحديث الذي أدلى به الأكاديمي والسياسي اللبناني البارز غسان سلامة، بمناسبة ظهور كتابه الجديد الذي تضمن فكرتَه عن «تفتيت المُحَرَّم النووي»، في إشارة لما يمكن تسميته بانتكاسة التطورات الإيجابية التي حدثت بشأن منع الانتشار النووي عقب نهاية الحرب الباردة. أما الآن، فيبدو أن الكل يسعى لزيادة ترسانته النووية وتجديدها، وربما الأهم من ذلك تواتر الحديث عن استخدام السلاح النووي في حرب أوكرانيا، خاصة من قبل روسيا إن شعرت بالتعرض للخطر. وكان ذلك رد فعل على حديث في دوائر غربية حول ما اعتبرته «ضرورة هزيمة روسيا» في هذه الحرب وإمكانية ذلك!
وقد أظهرت التطورات الأخيرة في حرب أوكرانيا تقدماً منتظماً للقوات الروسية، ومن الواضح أن ثمة تصعيداً غربياً قد حدث في مواجهته. وقد سبق أن رأينا تصريحات الرئيس الفرنسي التي كان مفادها عدم استبعاد إرسال قوات أوروبية لأوكرانيا. وبغض النظر عن عدم تأييد دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتلك التصريحات، وعن محاولات التجميل الدبلوماسية الفرنسية للتخفيف من أثرها، فإن بالتأكيد لم تكن تصريحات بلا دلالة. وقد شهدت الأيام الأخيرة مؤشرات أعادت القلق مجدداً من احتمالات الانفلات النووي؛ ومن ذلك أن نواباً أميركيين أرسلوا منذ أيام رسالةً إلى الرئيس جو بايدن يطالبونه فيها بالسماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الأميركية التي بحوزتها لضرب الأراضي الروسية، وتزيد أهمية هذه الرسالة، لأن الطيارين الأوكرانيين أكملوا تدريباتهم على استخدام مقاتلات F-16. كما طالب النواب باستخدام الصواريخ التي منحتها الإدارة الأميركية، والغرب عموماً، لمهاجمة روسيا. وتزيد خطورة هذا التطور التصريحات الأخيرة لأمين عام حلف «الناتو»، والتي مفادها أنه ينبغي أن تكون أوكرانيا قادرةً على استخدام الأسلحة الغربية ضد أهداف في روسيا!
وإذا حاولنا تجميع خيوط الموقف، فسنجد أنه يتلخص في أن الغرب لا يمكن أن يسمح بانتصار روسيا، ولذا فقد أمد أوكرانيا بكل ما هو ممكن من أسلحة تقليدية، وإن فرض شروطاً على استخدام بعضها، كأن لا تهاجم بها العمق الروسي. لكن الأداء الروسي في الميدان حيَّد آثارَ هذه الأسلحة، أو بالأحرى لم يمكِّنها من أن تغير ميزان القوى في الحرب، بل بدأ الميزان يتغير وإن ببطء لصالح روسيا نفسها، كما بدا أن استمرار النموذج الراهن للعمليات العسكرية يعني انتصار روسيا. ومن هنا جاءت مؤشرات التصعيد الغربية المذكورة أعلاه، وقد تمثل رد الفعل الروسي عليها في العودة للتلميح إلى الورقة النووية، وهو تلميح بدأ عندما أخذت دوائر غربية تتحدث عن سيناريوهات «الهزيمة الروسية»! وتمثَّل التلميح هذه المرة على نحو عملي، وهو قيام روسيا قبل أيام بإجراءات تهدف إلى التأكد من جاهزية سلاحها النووي التكتيكي، وهو ما يعطي صدقيةً أقوى لرسالة الردع الروسية، لأن الأسلحة النووية التكتيكية لا تسبب دماراً كبيراً، ولا انتشاراً واسعاً للإشعاع النووي. ويعني هذا أن ثمة سيناريوهين مطروحين في الوقت الحالي: إما استمرار النجاح الروسي، وهو ما يتسق مع الخبرة التاريخية الروسية، وهنا يصعِّد الغربُ نوعياً على نحو يلحق أضراراً بروسيا تجبرها على اللجوء للخيار النووي التكتيكي، ولا أحد يستطيع أن يقطع بعد ذلك بردود الأفعال وتداعياتها.. وإما أن يسود صوت العقل، ويبدأ التفكير في تسوية سياسية، خاصة فيما لو عاد ترامب لسدة الرئاسة الأميركية.