الاتحاد الأوروبي، رغم أن الخطوة كانت مثيرةً للجدل والخلاف والانقسام على مستوى الداخل البريطاني. ويبدو الآن أن الطرف الذي عارض «البريكست» بشدة كان على صواب في معارضته، وهذا ما أثبتته الأيام، لأن النتائج السلبية التي تحصدها المملكة المتحدة منذ مغادرتها الاتحاد تدل على أن البريكست كان خياراً خاطئاً إلى حد كبير.
لكن الشعور بالندم لا يفيد، وهو الشعور السائد في الشارع البريطاني حالياً، بعد أن اتضح أن البقاء خارج منظومة اليورو وبعده مغادرة الاتحاد الأوروبي مثَّلا خسارةً كبيرة لبريطانيا. ومن يتابع أخبار المملكة المتحدة يلاحظ تزايدَ الحديث عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والاضطرار إلى البحث عن حلول غير مجدية لمواجهة تدفق اللاجئين، بعد أن خسرت بريطانيا امتيازات التعامل الأوروبي الموحد مع مشكلة اللجوء والهجرة.
وتسببت خسائر بريطانيا من وراء «البريكست» في تزايد أعداد مَن يؤيدون إجراء استفتاء جديد للانضمام مرة أخرى إلى الاتحاد الأوروبي، بعد تدهور اقتصاد بلادهم ودخولها في موجات غير مسبوقة من الإضرابات وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، مقابل ارتفاع معدل التضخم إلى أعلى مستوى، وفقدان بريطانيا 15% من تجارتها، كما أصبحت تعاني أزمةَ تعطل سلاسل التوريد وبطء الاستثمارات والنقص في العمالة التي كانت تأتي إليها بسهولة من الدول الأوروبية. وبحسب التحليلات، كان أكثر قطاع واجه إشكالية نقص العمالة هو القطاع الصحي، وهذا يسبب ضغطاً على السياسيين، سواء في حزب المحافظين الحاكم أو في حزب العمال المعارض، من قبل الناخب البريطاني الذي وجد أن كل الوعود تبخرت وأن أضرار الخروج من الاتحاد الأوروبي كانت أكثر بكثير من المنافع.
ومن الطبيعي أن النمو الاقتصادي أكثر ما يهم الدول ويوجه قراراتِها في مجالات السياسة والعلاقات مع الدول والتكتلات القريبة منها، وقد خسرت بريطانيا الكثير في هذا المجال، وأدى خروجها من الاتحاد الأوروبي إلى سلسلة انخفاضات لم تتوقف، شملت انخفاضاً في نموها الاقتصادي وفي الاستثمارات الأجنبية وفي قيمة الجنيه الإسترليني. وبعيداً عن انخفاض الاستثمارات الخارجية وعدم تفضيل رؤوس الأموال للاستثمار في بريطانيا بعد أن أصبحت خارج منظومة الاتحاد الأوروبي، أصبحت الشركات البريطانية تواجه بدورها صعوباتٍ في العثور على العمالة الماهرة، وهذه نتيجة حتمية للقيود المفروضة على الهجرة من دول الاتحاد الأوروبي.
ومن واقع تجربة شخصية عشتُ خلالها سنوات الدراسة الجامعية في بريطانيا، ألاحظ مع كل زيارة جديدة أن الأوضاع في المملكة المتحدة تتغير، وأن ما تشهده من خسائر لا يقتصر على الجانب الاقتصادي وارتفاع تكاليف المعيشة فقط، بل هناك انقسام سياسي عميق ومستمر في ظل الجدل الدائر حول فوائد وأضرار «البريكست»، رغم أن الأضرار تكشف عن نفسها. وهناك قلق لدى الحكومة البريطانية إزاء عدم إيجاد حلول جذرية لإشكالية موجات اللاجئين إلى البلاد، حيث أعاق ابتعادُها عن الاتحاد الأوروبي استفادتَها من الجهود المشتركة للتعامل مع هذه الإشكالية.
ولحل هذا الملف تلجأ المملكة المتحدة إلى إنفاق مليارات الجنيهات الإسترلينية لإبعاد طالبي اللجوء القادمين من فرنسا عبر القنال الإنجليزي، والذين تزداد أعدادهم، مما أدى لزيادة الإنفاق الحكومي على عمليات الإبعاد، وزيادة الإنفاق على مراكز الاحتجاز.. ولهذا التشديد على طالبي اللجوء ضريبة تتمثل في فقدان العمال وانخفاض الإنتاجية الاقتصادية بسبب سياسات الهجرة الصارمة. وفي النهاية أدخلت بريطانيا نفسَها في سلسلة أزمات بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي كانت في غنى عنها، ودخلت في حالة من الجدل والتوترات السياسية مع فرنسا وتبادل الاتهامات بشأن عدم بذل ما يكفي من الجهد لوقف تدفق المهاجرين.
*كاتب إماراتي