بين عامي 2003 و2004 عملتُ في مركز الدراسات الدولية التابع لجامعة نورث كارولاينا في مدينة تشابيل هيل. وكانت فترة ثرية في سياق تجربتي الأميركية التي امتدت لسنوات قليلة.
وكانت جامعة نورث كارولاينا، في تشابيل هيل، نشطةً سياسياً، وكان لها مجتمعها الطلابي الليبرالي المدهش، خصوصاً أنه في ولاية جنوبية محافظة في الأصل. كانت الأجواء وقتها في ظل إدارة الرئيس جورج بوش الابن متوترة بسبب الحرب على العراق وتداعياتها، وكانت جامعة نورث كارولاينا على الخصوص مشحونةً بأجواء المعارضة الأميركية للحرب.
كما أن انتفاضة الأقصى كانت ما تزال تلقي بظلالها الثقيلة على الأجواء السياسية عموماً، وكنت أرى في طلاب تلك الجامعة وعياً ملموساً أكثر من الوعي «الغائب» في بقية المجتمع الأميركي على العموم وعلى الخصوص في الولايات الجنوبية. وكما يعرف الجميع فإن الوعي العام في الولايات المتحدة عند العموم الناس قاصر ومحدود بسبب الإعلام الأميركي الذي يختار ما يريد تقطيره وتلقيمه للمتلقي، بذكاء واحترافية بين الكلمات المنتقاة والصور المقذوفة على الشاشة، وفي أغلب نشرات الأخبار فإن العالم كله يمكن تلخيصه بعشر دقائق كافية بالنسبة للمتلقي الأميركي العادي كي يتزود خلالها بما يريد من زوادة معلومات سيتحدث بها مع مجموعات أصدقائهK حيث يدور النقاش ويتشكل الرأي العام الذي ينتهي تصويتاً انتخابياً في صناديق الاقتراع!
شاركتُ وقتَها في ترتيب جلسة حوارية نظمها المركز واستضاف فيها صحفيين من العالم العربي مع صحفيين أميركيين، وذلك تحت عنوان «قراءة التغطية الإعلامية في حرب العراق».
ومما أدهشني وقتها ذلك الحضور اللافت للفعالية التي نجح المركز في عقدها، وبالخصوص ذلك الحضور الكبير لفئة الشباب من الطلاب والطالبات وحجم تفاعلهم الهائل مع قضايا منطقة الشرق الأوسط وسعة إدراكهم وربطهم بين قضايا المنطقة وفهم تشابكاتها العنقودية التي تبدأ وتنتهي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن بين الطلاب والطالبات عدد كبير من اليهود الأميركيين المتفاعلين مع القضايا العربية!
ما يحدث اليوم في الجامعات الأميركية ذكّرني بالمشهد، مع فارق الوجبة الإعلامية، فالزمن تغير بتسارع مذهل، ووسائل التواصل الاجتماعي جعلت الدفق المعلوماتي أكبر بكثير وخارج سيطرة غرف تحرير الأخبار «الموجهة»، والمعلومة باتت متاحة للجميع.
الحركة الطلابية الأميركية التي تعترض اليوم على نطاق واسع، ويتسع اعتراضها باطراد، هي ذلك الجيل القادم في الولايات المتحدة والذي سيكون بعد تخرجه في مواقع مَن سبقوه، وهذه سنّة الحياة، لكن الجيل الجامعي الحالي سيكونون أكثر وعياً بقضايا منطقتنا، بعيداً عن حقبة التعتيم الإعلامي السابقة الممنهجة.
ومن هنا أرى ضرورة بذل الجهد بكل ما يمكن من نشاط، لا سيما على مستوى الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، لإقامة نشاطات طلابية متبادلة تهدف إلى تجسير العلاقة مع ذلك الجيل وبغية بناء أرضية تفاهم صلبة في المستقبل، وهو مستقبل قريب ووشيك.
ستنتهي أزمة الحركة الطلابية الأميركية الحالية، لكنها ستترك آثارها القوية في وعي جيل واسع من الطلاب.. تماماً كما تركت حركات طلابية أميركية عديدة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي آثارَها في قضايا سياسية مختلفة، مثل حرب فيتنام والحركة الهيبية.. وغيرها من تشابكات تفاعلية أنتجت جيلاً حاول التغيير دوماً.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا