في كتابه الأخير الصادر بالإنجليزية بعنوان «التقانة الإقطاعية: من قتل الرأسمالية؟»، يذهب عالم الاقتصاد والوزير اليوناني الأسبق يانيس فاروفاكيس إلى أن الثورة التقنية الراهنة نقلت العالم الغربي الحديث من الرأسمالية الصناعية، بمنظومتها الطبقية ونسقها السياسي الليبرالي، إلى نمط جديد من النظام الإقطاعي، لا مجال فيه للسوق والربح. لقد قتلت الرأسمالية نفسها، بلغة فاروفاكيس، بالخروج من منطق السوق الحرة التنافسية التقليدية إلى ما سماه بالرأسمال - السحابي (Cloud capital) الذي لا يقوم على النمو والربح وإنما على الريع وفق علاقات إقطاعية جديدة يتحكم فيها أرباب المنصات الرقمية الكبرى الذين يستغلون ملايين الخدم مجاناً من خلال استخدامهم الطوعي للشبكات الاتصالية التي غدت تتحكم في الميادين الاقتصادية وتحدد الأنماط الجديدة من التنظيم الاجتماعي.
أطروحة فاروفاكيس تخرج عن النظريتين المتمايزتين اللتين برزتا في السنوات الأخيرة في الفكر اليساري الأوروبي، حيث ذهبت أولاهما إلى أن ظاهرة العولمة هي التجسيد التاريخي لمنطق التوسع الرأسمالي المفضي حتماً إلى تدمير الطبيعة والقضاء على الهويات الجماعية (الآن باديو)، وذهبت ثانيتهما إلى أن العالم دخل في عصر ما بعد الرأسمالية من خلال الانتقال إلى نمط الاقتصاد غير المادي وإنتاج المشترك الكوني الذي هو الأفق الجديد للنظام الاقتصادي والاجتماعي (توني نغري).
أطروحة فاروفاكيس تنطلق من إدراك نفس المعطيات ذات الصلة بالثورة التقنية الراهنة القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الاتصالية والجينية وانبثاق الاقتصاد التشاركي، لكنها ترى أن نمط التحول الجديد لا يفضي إلى منح الرأسمالية أفقاً كونياً يتلاءم مع منطقها الغائي كما ظن ماركس، ولا يؤدي إلى إبطال نظام الاستغلال الطبقي الذي كان ينخر الرأسمالية من الداخل، بل إن العالم يسير في اتجاه منظومة تقنية اقتصادية غير مسبوقة يطلق عليها «الإقطاعية السحابية» التي قد تنجر عنها حرب عالمية طاحنة بين سادة الإقطاع الجديد في الولايات المتحدة الأميركية والصين. والسؤال المطروح هنا بقوة هو إلى أي حد يمكن اعتبار الاقتصاد الرقمي التشاركي امتداداً للرأسمالية التقليدية القائمة على ثنائيتي الإنتاج والاستهلاك، والمال والبضاعة؟
وماذا يحدث عندما تنفصم الروابط بين الإنتاج المادي والسيلان المالي وتنمحي الحدود بين الإنتاج والاستهلاك؟ لا يبدو أن الفكر الليبرالي الكلاسيكي انتبه إلى هذه التحولات النوعية التي قوضت القاعدة الثابتة في المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المرتبطة بالمجال الجغرافي والدولة القومية، في الوقت الذي لم تنتبه لنفس التحولات الاتجاهاتُ الاشتراكية التي راهنت على التناقضات الداخلية في المنظومة الرأسمالية من أجل تجاوزها في أشكال أكثر عدالةً ورفاهية من النظام الاجتماعي. ما لم ينتبه إليه التياران هو التغير النوعي في البنيات التقنية والاقتصادية للعالم الراهن، والتي طالت المحددات الثلاث الأساسية في كل ثورة صناعية، وهي تقنيات الاتصال ومصادر الطاقة ووسائل النقل.
وكما يبين عالم الاقتصاد الأميركي «جرمي ريفكين»، فقد قامت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر من بريطانيا وارتكزت على آلة البخار والفحم والتلغراف، بينما قامت الثورة الصناعية الثانية في الولايات المتحدة على النفط والكهرباء والهاتف والإعلام السمعي البصري. ومع الثورة الحالية تغيرت كل هذه المحددات وأصبحت تتمحور حول نظام الرقمنة الذي يكفل الربط السريع والناجع بين مختلف الوسائل والمنافع وفق «إنترنت الأشياء» الذي هو في طور التغيير الجوهري لطبيعة العالم.
لقد اعتبر ريفكين أن هذه التحولات الكبرى أفضت إلى تعايش نظامين اقتصاديين هما النسق الرأسمالي التقليدي القائم على منطق السوق، والنسق التشاركي الذي يقوم على المنافع والمصالح شبه المجانية. والسؤال الذي يتعين الجواب عليه في ضوء هذه الآراء: هل سيحرر الاقتصاد التشاركي الجماعي المجتمعات من الفاقة والاستغلال، كما يرى بعض الباحثين الاقتصاديين الاجتماعيين المنبهرين بالثورة التقنية الصناعية الجديدة (من نوع ريفكين)، أم سيؤدي إلى أخطر أنواع الجشع والغبن من خلال الاستغلال الصامت والناعم للقوة الحيوية البشرية عبر الشبكات الرقمية التي هي الميدان الإقطاعي الجديد (فاروفاكيس)؟ عندما نرجع إلى الأدبيات الفلسفية والاجتماعية التي واكبت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، والثورة التي تلتها في بدايات القرن العشرين، نشهد نفس الحوار بين دعاة التقنية الانعتاقية التي تحقق حريةَ الإنسان ورفاهيته، وبين الأصوات الناقمة الخائفة من تدمير الطبيعة وتقويض التوازنات الاجتماعية والإنسانية. ما نعيشه راهناً مع الثورة التقنية الثالثة هو نفس الحوار من منطلقات وخلفيات مغايرة.
*أكاديمي موريتاني