الضوضاء والأمن القومي
بينما كُنت وسط أحد «المولات» التجارية الكبيرة المكتظة بالناس والأطفال والتي تعلوها كمية كبيرة من الأصوات المتقاطعة بين حديث وهتاف وصراخ وبكاء وضحكات وحتى تشجيع، رَنَّ هاتفي الذي سَمِعَهُ صاحبي قبلي، وبعد أن نَبّهني لذلك، أخذتُ أخرج هاتفي بضَجَرٍ ومَلَلٍ من جيبي، وما أن رأيتُ الرقم على هاتفي حتى أصابني الفرح والسرور، فالمتصل هو معلمي الأول ومدرسة كبيرة مازلتُ أتدرج فيها عبر فصول الحياة والسياسة والتخطيط والحكمة، علاوة على كل ذلك، فالمتصل له فضل كبير عليّ في مواجهة تحديات الحياة، وبعد السلام وواجب التقدير والمكانة الرفيعة، قلت له: عذراً لديّ ضوضاء وضجيج من أصوات الأطفال في «المول». وها أنا أهرول مسرعاً للخروج.
فرد ضاحكاً مقدماً لي درساً وحقيقةً وحكمةً: ابقَ مكانك، أتقول ضوضاء عن أصوات الأطفال، بل إنها أصوات موسيقى الحياة وتعاقب واستمرار الأجيال، ما أجمل ضوضاء الأطفال.. فقلت خجلاً صاغراً من كلامي، حقاً يا سيدي إنها أصوات موسيقى الحياة، كنت أقصدُ الصفاء والهدوء لمسمعك في الحديث معي.
لقد أصبحت هذه الضوضاء من الأطفال تبحث عنها دول، وتُسّنُ لأجلها التشريعات والقوانين لتحقيق زيادة في عدد المواليد، فألمانيا مثلاً تصرح بأنها باتت تفتقر لأصوات ضوضاء الأطفال في المطاعم والكافيهات والأسواق والأماكن العامة، فمعدل المواليد يهدد الأمن القومي؛ لذا قدمت ألمانيا حملات توعية وتشريعات تدعم زيادة الإنجاب، كالحوافز المالية والإجازات وغيرها من الوسائل الداعمة، ويتبع هذا المسار دول كثيرة.
مما لا شك فيه أن قوة الأمم والشعوب والدول تعكسهُ قاعدة مثلث أعمار السكان، فإذا كانت تحتوي على الأطفال بشكل كبير دَلَّ ذلك على القوة البشرية والاقتصادية الكامنة والمناعة الأمنية، فانخفاض الخصوبة لم يرتبط بعلل جسدية بل يرد إلى الأيديولوجية السياسية والقيم الثقافية والحرية الفردية وفكرة محدودية الموارد والنمو الاقتصادي لتحقيق الرفاهية، فالصين تخلت مؤخراً عن سياسة الطفل الواحد للأسرة، وفي الحرية الفردية تحاول الدنمارك كسرها والإعلان بشيء من الصراخ بأن الإنجاب أصبح من أجل الوطن.
فتزايد صرخات الحياة عند الولادة أضحى يشغل اهتمام الكثير من الدول والحكومات والشعوب والأعراق، فها هي روسيا، يحث رئيسها بوتين في خطابهِ السياسي على أن يكون الإنجاب من ثلاثة أطفال وأكثر لكي تنمو وتزدهر البلاد، ومقدماً أيضاً في ذلك جائزة ووسام «الأم البطلة» لمن تنجب عشرة أطفال، وهناك وسام آخر يسمى «المجد الأبوي» للأسر التي لديها سبعة أطفال وأكثر.
وعلى المستوى العالمي، يخرج لنا «إيلون ماسك» بشخصيتهِ التجارية والكاريزمية محتفلاً بطفلهِ الحادي عشر، فهذا الرقم المقسوم على ثلاث زوجات يرفعهُ «إيلون ماسك» بقوتهِ الناعمة قائلاً إنهُ يقدم نموذجاً ويساعد ويشجع العالم على حل معضلة الإنجاب. حقاً يا معلمي، الحياة والشعوب والأمم والبقاء والتطور والأمن، كلها نابعة من ومعتمدة على الأصوات الأولى من التنفس والصرخات والبكاء عند كل ولادة جديدة تدفع نحو استمرار وتدفق وتجدد نهر الحياة.
*كاتب ومحلل سياسي