لماذا نقسّم العالم إلى خير وشر؟
يقسِّم البشرُ العالم إلى قسمين حينما يشعرون بالتهديد: الحق والباطل، الخير والشر.. نحن وهم. في الأوقات العادية، غالباً ما يلاحَظ هذا السلوك عند الأشخاص الذين يعانون الاكتئاب الخطير أو اضطراب الشخصية الحدية. ويطلق عليه علماء النفس اسم «التقسيم». أما هذه الأيام، فقد بتنا نرى الكثير من التقسيم بين كل أنواع الأشخاص، من طلبة الجامعات إلى أعضاء مجلس الشيوخ.
فهذا السيناتور تيد كروز («الجمهوري» عن ولاية تكساس) قال بعد ما جرى في 7 أكتوبر : إن هذا القتال يعكس الاختلافات بين الجانبين تشبه «اختلافات بين الظلام والنور».
وفي الأوقات التي تتميز بالقلق الشديد، يتم تصوير كل صراع جديد على أنه صراع كبير ضد الشر. ووفقاً لهذا التأطير، فإن التعقيد لا يطاق، وعدم الحسم ينمّ عن الجبن. فخلال الاحتجاجات المطالبة بالعدالة العرقية في الولايات المتحدة عام 2020، مثلاً، كان جميع رجال الشرطة «ملامين»، أو هكذا كانت تقول الشعارات المرفوعة.. فأنت إما عنصري، أو مناهض للعنصرية. ومثلما كتب إبراهيم إكس. كندي: «لا توجد منزلة آمنة بين المنزلتين لغير العنصريين».
وعلاوة على ذلك، يمنحك التقسيم شعوراً بالراحة والارتياح لأنه يعدك بفتحة هروب من الفوضى. ولسان حاله يقول: إننا إذا قرأنا الكتب المناسبة ووضعنا اللافتات الصحيحة على الحديقة، «فنستطيع أن نكون بأمان هنا، في خندق الخير، بعيداً عنهم». لكن، وعلى غرار معظم أنماط التفكير المشوهة، يجعلنا التقسيمُ نشعر بشعور سيء بعد أن يجعلنا نشعر بشعور جيد.
ف«عندما نحاصَر، نميل إلى رفع جسورنا العقلية ومنع المعلومات الجديدة عنا تحديداً في الوقت الذي نكون فيه بأمس حاجة إليها»، كما تقول ماغي جاكسون في كتابها الجديد «غير أكيد: الحكمة والعجب بشأن عدم اليقين». حين قاد الرئيس جورج دبليو. بوش أميركا إلى حربين كارثيتين، قسّم العالم إلى معسكرين مغرقين في التبسيط: الولايات المتحدة والشر. وأشار إلى «الشر» في 319 خطاباً، أي ما يناهز ثلث كل الخطابات التي ألقاها خلال العامين ونصف العام الأولين من توليه الرئاسة، وذلك وفقاً لكتاب بيتر سينغر «رئيس الخير والشر».
هذا النوع من الوضوح كان مطَمْئناً لملايين الأميركيين، لكنه لم يكن يترك مجالاً للشك أو لرؤية الواقع. فصدّام حسين ربما كان عنيفاً ومخادعاً، لكنه لم يكن يشكّل أي تهديد واضح لأمن الولايات المتحدة. هناك أشياء كثيرة يمكن أن تكون صحيحة في الوقت نفسه. والناس عادة لا تنطبق عليهم بشكل تام بعض التصنيفات المريحة، مهما حاولنا تصنيفهم وفق تلك الطريقة. وعلى سبيل المثال، فإن حوالي 20٪ من مواطني إسرائيل من العرب. وضمن أي فئة يمكن تصنيف هؤلاء الـ2 مليون شخص في هذا الكون المنقسم؟ الشهر الماضي، أشار 70٪ من هؤلاء المواطنين العرب إلى أنهم يشعرون بأنهم جزء من إسرائيل، مقارنة بـ48٪ فقط في يونيو.
وفي غضون ذلك، قال أقل من 4٪ من اليهود الإسرائيليين إنهم يثقون في رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو باعتباره المصدر الأكثر موثوقية للأخبار المتعلقة بالحرب ضد «حماس»، وفقاً لاستطلاع آخر للرأي. فما معنى هذا؟ الواقع أن التقسيم بوصلةٌ مكسورةٌ في عالم بالغ التعقيد.واللافت أن معظمنا يشعر بعدم اليقين وبمشاعر متناقضة بشأن كيفية حل المشاكل المستعصية، من الحرب في الشرق الأوسط إلى العنصرية في أميركا. وعندما يقسّمنا السياسيون والناشطون ولا يستمعون إلا إلى ما يقوله المتطرفون، فإنهم يفقدون الاتصال بهذا الواقع.
فقبل سنوات على إسقاط حكم المحكمة العليا في قضية «رو ضد وايد» الذي حمى الحق في الإجهاض، مثلاً، كان من الواضح أن العديد من «الجمهوريين» لا ينطبق عليهم تماماً التصنيفُ الذي يضعهم ضمن المعسكر المناهض للإجهاض. ووفقاً ل«المسح الاجتماعي العام» سنة 2021، فإن حوالي الثلث يقولون إنهم يؤيدون الإجهاض القانوني إذا كانت المرأة تريد ذلك لأي سبب من الأسباب. غير أنه عندما حمى الناخبون من كانساس إلى أوهايو حقوق الإجهاض، شكّل ذلك مفاجأةً للعديد من الخبراء السياسيين. وبخصوص تغير المناخ أيضاً، ليست هناك مجموعتان - المنكرون والمصدّقون - ولم تكن هناك أبداً مجموعتان فقط. وفي هذا الصدد، يقول الباحثان أنتوني ليسيروفيتز وإدوارد مايباخ، اللذان يدرسان الرأي العام الأميركي بشأن هذا الموضوع منذ عام 2008، إن هناك ما لا يقل عن 6 مجموعات، من القلقين إلى المنعزلين إلى الرافضين، يتغيّر حجمها على مر السنوات.
بيت القصيد هنا هو ضرورة أن نفترض دائماً أن سلوك البشر ومعتقداتهم متنوعة تنوعاً واسعاً. ويجب على الصحفيين، بشكل خاص، أن يساعدونا على فهم هذا الأمر، من خلال إجراء مقابلات مع الأشخاص الذين غيّروا آراءهم أو الذين ليسوا متأكدين ولا ينطبق عليهم بشكل جيد التصنيف الذي يصنّفهم ضمن معسكر معيّن. فهؤلاء ينبغي تضخيم أصواتهم لأنهم يشبهون معظمنا.
ومن أكثر الأشياء المفيدة التي قرأتها منذ بداية هذه الحرب في غزة المقابلة التي أجرتها لولو جارسيا نافارو مع الكاتب الإسرائيلي إتغار كيريت لفائدة صحيفة «نيويورك تايمز». ففي الأيام التي تلت هجمات «حماس»، شعر كيريت برغبة ملحة في التقسيم، لكنه كان يقاومها بقوة ويسعى لرؤية الكارثة في صورتها الكاملة، إذا جاز التعبير: «أعتقدُ أنه في أرواحنا، أو أذهاننا، أو سمّه ما شئت، هناك شيء في غاية التعقيد، قدرة ما على احتواء الغموض، وعلى عدم الانجراف مع عاطفة واحدة فقط. أن تكون قادراً على استيعاب تعقيد الوجود».
وللأميركيين الذين يعيشون على بعد أكثر من 5 آلاف ميل، ويتجادلون حول ما إن كان نظام المدارس العمومية هذا أو عميد الكلية ذاك غاضباً بما فيه الكفاية، قال كيريت: «إنه جنون أن يقول لك الناس: ندِّد بهذا، وندِّد بذاك.
لا أريدُ من أي أحد أن يدين أي شيء. بل أكتفي بالقول: كن إنسانياً. فإذا رأيت شخصاً يتألم، فحاول أن ترى هذا الألم». وقد تكون تلك أفضل نصيحة للعيش في مثل هذا العصر: «تنفس التعقيد»، وحاول رؤية الألم، وتجنّب التفكير بأسلوب «إما أبيض أو أسود». وضعْ عينيك المتعبتين على اللون الرمادي، فذاك هو المكان حيث توجد كل الحركة.
*كاتبة أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»