في أواخر ستينيات القرن الماضي، قدّم الممثل الكوميدي فيليب ويلسون عرضاً فنياً خطف ألباب جماهير النوادي الليلية والتلفزيون. كنتُ في العاشرة من عمري عندما سمعته للمرة الأولى، ولم أنسه قط.

ويلسون تخيّل كريستوفر كولومبوس وهو يسعى لإقناع مموّلة محتملة (ملكة إسبانيا إيزابيلا) بجدوى مهمته قائلاً إنه إذا لم يكتشف أميركا، فإنه لن يكون هناك (السياسي) بِن فرانكلين، ولا «أرض الأحرار»، ولا «موطن الشجعان» (كناية عن أميركا)، ولا (المغني) راي تشارلز. فصاحت الملكة بحماسة: «كريس سيجد راي تشارلز! كريس سيجد راي تشارلز». شحنة كبيرة شُحنت بها تلك النكتة. وكان ويلسون من أوائل الكوميديين السود الذين دخلوا إلى الثقافة الأميركية. وقد تزامنت نجوميته مع عنف معارك الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي، وأزمة الثقة الأميركية على خلفية حرب فيتنام وفضيحة «ووترغيت».

وفي تلك الفترة نفسها تقريباً، كانت «حركة الهنود الأميركيين» تطالب بإعادة تقييم لتركة الاستعمار الأوروبي. وكان (النقابي وناشط الحقوق المدنية) سيزار تشافيز و«عمال المزارع المتحدون» يشددون على إنسانية المكسيكيين الذين تعرضت مملكتهم للغزو من قبل المستكشفين الإسبان.

كل هذه التوترات كانت مخفية تحت السطح ضمن عرض ويلسون الفني، تشي بها عيناه المتوترتان. لكن روعة العرض تكمن في أنه أخذ في عين الاعتبار القوة الثقافية الهائلة لهذا العالم الجديد الحافل بالاندماجات القسرية والاصطدامات العالمية. فأميركا الوحشية، الدموية، الجشعة، كانت أيضاً أميركا الحرة، الملحة، الجديدة. أجل، لقد كان مقدراً للمستوطن كولومبوس أن يجلب مصائب وويلات، ولكن كان مقدراً له أيضاً أن يمنحنا راي تشارلز وغيره من المبدعين الآخرين. ولهذا، فإن طاقة الولايات المتحدة الإبداعية لا يمكن فصلها عن التوتر.

لكن السؤال الكبير بالنسبة للثقافة الأميركية في عام 2024 هو: كيف يمكننا إعادة التواصل مع هذه الهوية الوطنية المركبة؟ الواقع أننا ملنا كثيراً إلى جانب واحد، أي نحو سردية سلبية حول التراجع. فاليمين واليسار لا يكادان يتفقان حول أي شيء باستثناء فكرة أننا أمّة تسير في الاتجاه الخاطئ. والحال أن إضعاف المعنويات هذا له آثار في العالم الحقيقي. ذلك أنه يسمّم الخطاب السياسي ويحوّل اللوم إلى تجارة مزدهرة. كما أنه يزيد من الاستياء ويغذّي الخوف. وهو فضلاً عن ذلك يعمل على تقوية أعداء الحضارة الغربية الذين لا يرغبون في شيء أكثر من أن تتحقق قصة الضعف الأميركي وتصبح حقيقة. ويعود تفشي الإحباط والتثبيط إلى أفكار الاستثناء الأميركي الخاطئة. فاليمين الثقافي، مثلاً، يحنّ إلى ماضٍ لم يكن موجوداً على الإطلاق، عندما كانت أمّةٌ متجانسةٌ تنعم بسلام ورخاء غير مسبوقين.

هذا في حين يسعى اليسار الثقافي إلى تصحيح ماضٍ من العنف والقمع الشديد. لكن حقيقة أن الولايات المتحدة لم تكن جيدة ولا سيئة كما يتخيلها منتقدوها الحاليون حقيقة يمكن أن تحرّرنا من الحمى التي باتت تطبع السياسة في عصرنا الحالي. والواقع أن ما يجعل أميركا استثنائية هو جاذبية ثقافتها الشعبية، التي اجتاحت العالم لدرجة أنها باتت تبدو عادية تقريباً. فالموسيقى الشعبية في كل مكان على هذا الكوكب تقريباً تحمل علامات جينية تعود لموسيقى البلوز الأميركية.

والسينما، وبغض النظر عن لغتها، لديها أثر أو مسحة، أو أكثر، من جنوب كاليفورنيا في لهجتها. كما أن الإقبال على التكنولوجيا الأميركية كبير عبر العالم، وكذلك الحال بالنسبة لماركات الملابس الأميركية. إنها تنتشر بسهولة وتمتزج بشكل كامل مع العديد من الثقافات المحلية لأنها نشأت من الاختلافات والتباينات والتوترات. فالثقافة الشعبية الأميركية ليست رسمية، ولا هي مفروضة أو مقررة من أي جهة، وإنما تصعد من الأسفل بدلاً من أن تُفرض من الأعلى.

فهي تُصنع من قبل الناس ومن أجل الناس، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من فوضى وارتجال. وبهذا المعنى، يمكن القول إن كريستوفر كولومبوس، ومن خلال سعيه وراء عالم جديد على الأراضي الأميركية، عبر المساعدة على بدء العديد من الاصطدامات البشرية، واشتباكات الحضارات، والثروات والمصائب، وعمليات القتل والتزاوج والهجرات.. كان بالفعل في طريقه إلى منحنا راي تشارلز.

هذا الأخير، الذي وُلد في ولاية جورجيا زمن الفصل العنصري، وتيتّم في ولاية فلوريدا حيث يسود الفصل العنصري أيضاً، وكان ضريراً منذ طفولته، وأطلق عليه (المغني) فرانك سيناترا لقب «العبقري الحقيقي الوحيد في مجال الفن والغناء»، على ما يقال.. كان فناناً رائعاً اجتمعت فيه الأصوات والإيقاعات. كان يتنفس موسيقى البلوز، وموسيقى الآبالاش الشعبية، وموسيقى الجاز في شيكاغو، وموسيقى «الكانتري» في تكساس، وترانيم صباح الأحد الإنجيلية، وموسيقى «تين بان آلي» النيويوركية.

كل هذه التقاليد تعبّر، بطريقة أو بأخرى، عن ظلال من القمع وعدم المساواة، لكن أيضاً عن مساحات ضوء من الفرح والإبداع. كما تحوي ندوبَ وإبداعات أشخاص وقبائل ومجتمعات تحتك ببعضها بعضاً. إنها أجزاء متساوية من الألم والأمل. وعندما يجد فنان تلك السمات المشتركة ويمنحها تعبيراً كاملاً، فإن النتيجة تخاطب البشر في كل مكان. في عام 1972، عندما كان سطع نجم فليب ويلسون، طرح راي تشارلز تسجيله الشهير لأغنية «أميركا الجميلة».

كان الزمن زمن التفجيرات الداخلية، والاحتجاجات المناهضة للحرب، والمواجهات العنصرية، والاغتيالات السياسية، والاضطراب الاقتصادي. وغنّى ويلسون الأغنية كما لم تُغنَّ من قبل، بألمٍ ومجدٍ في مزيج موسيقي روحي باذخ. وكانت أرضية مشتركة لشعبٍ منقسمٍ. ما أحوج أميركا إلى راي تشارلز آخر في عام 2024!

* كاتب وصحافي أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»