تسود العالم تطورات تجارية متناقضة إلى حد بعيد، فتأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995 وانضمام معظم الدول إليها وتوقيع اتفاقيات تتعلق بتسهيل التبادل التجاري من خلال التسهيلات التي قدمت عبر هذه الاتفاقيات التي نتج عنها نشاط ونمو غير مسبوقين في حركة التجارة الدولية، وتوفير ملايين الوظائف الإضافية، إلا أن حجم هذه المكاسب تفاوت بين بلد وآخر، إذ لعبت تكاليف الإنتاج ضمن ما يسمى الميزات النسبية دوراً حاسماً في مَيلان ميزان المصالح لبعض الأطراف، وهو ما نجمت عنه خلافات تجارية شديدة أدت إلى تجاذبات داخلية عميقة، تمكن الإشارة هنا إلى أهمها، أي تلك الخاصة بالخلافات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي أثرت على مستوى التبادل التجاري بينهما وعلى العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بينهما أيضاً.
لذلك برزت مؤخراً العديد من الآراء التي تدعو إلى العودة للحمائية التجارية من منطلق «الذات الوطنية» المغلّفة بعدم القدرة على المنافسة، وهو السبب الرئيس لهذه التوجهات المتزايدة بصورة ملحوظة في كل من فرنسا والمجر العضوين في الاتحاد الأوروبي، وهذا الأخير له قوانينه وتشريعاته التي يبدو أن بعض أعضائه يبتعد عنها حالياً، انطلاقاً من مصالحهم الذاتية.
في فرنسا هناك اتجاه قوي لتطوير المنتجات الإلكترونية وأدوات التقنيات الحديثة بدلاً من استيرادها، حتى ولو أدى ذلك إلى ارتفاع أسعارها بالنسبة للمستهلك المحلي، وتدنت قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية.
أما المجر فوقّعت مؤخراً اتفاقيةً مع الصين لإقامة مصنع لإنتاج السيارات الكهربائية ومتطلباتها، وذلك على الضد من سياسات الاتحاد الأوروبي الذي يقيد ذلك ويدعو إلى الاعتماد على صناعة السيارات الكهربائية الأوروبية عالية التكلفة، مقارنةً بمثيلتها الصينية.
والاتجاه الآخر في العلاقات التجارية يتمثل في سياسات بعض الدول، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي، وهو الاتجاه الداعي إلى دعم حركة التبادل التجاري للاستفادة من إيجابياتها التي أثبتتها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، والتي تتعرقل حالياً، مما دفع دول المجلس للبحث عن بديل تمثل في توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع أهم الدول ذات الثقل التجاري، مثل الصين والهند، إلى جانب بريطانيا الجاري العمل معها في هذا الاتجاه، وكذلك سنغافورة، إضافة إلى كوريا الجنوبية التي وقعت معها دول المجلس الأسبوع الماضي اتفاقيةً للتجارة الحرة، ما سيؤدي من بين أمور أخرى إلى إلغاء الرسوم الجمركية بين الطرفين، وبالتالي إلى انخفاض أسعار السلع الكورية في الأسواق الخليجية، وتوفرها للمستهلكين بأسعار أرخص، مقابل زيادة تنافسية السلع الخليجية في السوق الكورية، وهو أمر مهم للصادرات الخليجية المتنامية.
ولشرح هذا التوجه الخليجي تنبغي الإشارة إلى أن دول المجلس تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يتوسط دول العالم، كما أن بنيتها التجارية واللوجستية متطورة جداً، ويمكنها استيعاب جزء كبير من التجارة العابرة بين الشرق والغرب، ما يؤهِّلها لتحقيق مكاسب مهمة، علماً أن إقامة هذه البنى التحتية كلّف الكثير، ولا بد من استغلاله بأقصى طاقته الإنتاجية لتحقيق عوائد تتناسب وتكاليف الإنشاء. كما أن منتجاتها الصناعية، وبالأخص المنتجات النفطية والبتروكيماوية والألمنيوم، تنمو بصورة مطردة، وهي بحاجة لأسواق كبيرة وقدرات تنافسية يمكن توفيرها من خلال اتفاقيات التجارة الحرة.
وهل هناك جوانب سلبية لهذه الاتفاقيات؟ معلوم أنه لا توجد ظواهر في حالتها المطلقة، لذا هناك بعض التداعيات التي يمكن التعامل معها ومعالجتها؛ أولها منافسة سلع الدول التي وقّعت معها اتفاقيات للتجارة الحرة للمنتجات الخليجية، إلا أن الأمر المهم هنا هو أن ذلك سيكون في نطاق محدود بسبب اختلاف نوعية السلع المستوردة من هذه الدول عن طبيعة معظم المنتجات الخليجية، مما يعني أن هذه التداعيات ستكون محدودةً بالقياس إلى المكاسب المتوقعة. وقد تفقد الموازنات الخليجية بعض موارد العائدات الجمركية، إلا أن ذلك يمكن تعويضه من خلال إدخال إصلاحات على النظام الجمركي وزيادة فعاليته، بما في ذلك سياسة الصادرات التي سترتفع مستفيدةً من اتفاقيات التجارة الحرة التي ستكون محصلتها النهائية لمصلحة الاقتصاد المحلي والمستهلكين على حد سواء.

*خبير ومستشار اقتصادي