في كتابه الصادر مؤخراً بالفرنسية تحت عنوان «التاريخ العالمي للفلسفة»، يتناول الفيلسوف الشاب فنسان سيتوت الإشكالية المنهجية المألوفة في تاريخ الفلسفة، حيث يتم عادة التأرجح بين مقاربة داخلية نصية تحصر الفلسفة في الموروث اليوناني وتأويلاته وامتداداته اللاحقة، ومقاربة خارجية تربط الفلسفة بالسياقات الحضارية والاجتماعية وترى أنها رصيد مشترك بين الثقافات الإنسانية الكبرى.
من الواضح أن سيتوت يتبنى الرؤية الثانية، لكن من منظور جديد ومتميز. فلئن كان ينفي المركزية اليونانية الغربية في الفلسفة (أطروحة هيغل- هايدغر)، إلا أنه ينطلق في الآن نفسه من العلاقة المعقدة بين ثلاثة أنماط من التشكلات الثقافية الكبرى عرفتها كل الحضارات الأساسية وهي الدين والفلسفة والعلم. في هذا السياق، يقف المؤلف عند ثماني حضارات كبرى هي: اليونان والرومان والإسلام وأوروبا وروسيا والهند والصين واليابان، معتمداً معيارين أساسيين لانتقاء العوالم الحضارية التي عرفت الثلاثية المذكورة، وهما: الاستمرارية التاريخية والنوعية الكيفية.
فإذا كانت الحضارة اليونانية عرفت بالممارسة الفلسفية التي تكرس المنحى المفهومي وتربط الحقيقة بالبرهان العقلي والبناء المنطقي، إلا أن هذا التوجه لم يكن خاصاً بالثقافة اليونانية، بل هو نمط من النزوع النظري الذي عرفته الحضارات الأخرى. كل الحضارات طرحت أسئلة ثلاثة جوهرية هي: من ماذا يتشكل العالم؟ وما هو الخير والشر؟ وما هو المسلك الذي يجب على الإنسان اتباعه في طريق العيش؟
إن هذه الأسئلة الثلاث تحيل إلى مقاربات مختلفة هي الأنطولوجيا (مبحث الوجود) والأكسيولوجيا (مبحث الأخلاق) والباراكسيولوجيا (مبحث الممارسة).
وفي كل حضارة تبرز أنواع ثلاثة من الطرق المنهجية للرد على هذه الأسئلة: إما بالرجوع إلى التقاليد والمعتقدات والرواية المقدسة (الدين)، أو باعتماد مسلك الاستدلال البرهاني (الفلسفة)، أو باختيار طريقة التحقق التجريبي والصياغة الصورية (العلم).
ويبدو أن سيتوت يتبنى المنهج الوضعي التاريخي المعروف لدى أوغست كونت بقانون الحالات الثلاث، ولو من زاوية جديدة، معتبِراً أن كل حضارة تمر بثلاث مراحل متتابعة في المسار الفكري.
- المرحلة ما قبل الكلاسيكية: التي تهيمن فيها المعتقدات الدينية.
- المرحلة الكلاسيكية حيث تنفصل الفلسفة عن الخطاب الديني.
- المرحلة ما بعد الكلاسيكية التي يهيمن فيها العلم الصوري التجريبي على الحقل الثقافي.
وإذا كان يحسب لسيتوت خروجَه من المقاربة المركزية اليونانية الغربية في تصور الفلسفة وتاريخها، فإنه ظل سجين الرؤية الوضعية التاريخانية التي تفصل جذرياً بين الدين والفلسفة والعلم حتى ولو كانت جذور هذه التشكيلات الثقافية مشتركة. إن هذه الرؤية تنبع من المركزية الثقافية التي ينتقدها لكونها تعتبر الحالة الوضعية خط اكتمال المسار الحضاري، وترى في الفلسفة خط القطيعة مع الدين، في حين أن الأمر هنا يتعلق فقط بالحضارة الغربية وليس بثقافات كونية أخرى يقترن فيها المقدس بالمفهوم والأنساق الرياضية الطبيعية.
ولنكتفِ هنا بالإشارة إلى أعمال مروان راشد التي بينت أن مسار الفلسفة في التاريخ الإسلامي تقاطع مع المباحث الكلامية والممارسات العلمية التجريبية. لم تكن هذه العناصر الثلاثة متنافرة أو متعارضة، بل إن الحركة الفلسفية الحقيقية تمت من داخل الحوار الكثيف المتواصل مع الفكر الديني، بما ولد الإشكالات الخاصة بالفلسفة الإسلامية الوسيطة، سواء من داخل علم الكلام (علم الكلام الفلسفي الذي تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته)، أو من داخل الفلسفة (الفلسفة الإلهية لدى ابن سينا وفلسفة الإشراق اللاحقة). كما أن نظريات اللغة والكلام في التقليد الإسلامي كانت وثيقة الصلة بالفكر الرياضي والعلمي (مثل ارتباط نظرية الجوهر الفرد في الطبيعيات أو الأحوال البهشمية بالجبر ونظريات الحركة والضوء).
بل إن مناهج كتابة تاريخ الفلسفة الغربية نفسها تخلت عن هذا الفصل الصارم بين الدين والفلسفة والعلم، باعتبار أن الأنساق الفلسفية الكبرى قديماً وحديثاً كانت في أغلبها صياغات برهانية لمضامين عقدية أو لاهوتية، كما أن حركة العلم تسبق عادة المقاربات الفلسفية، إلى حد أن دومنيك ديزانتي يقول إن كل فلسفة تستبطن علوم عصرها، وكل تحول كبير في النظر الفلسفي تم من داخل الثورات العلمية الكبرى.
وبقي السؤال التقليدي مطروحاً: هل تشكل تفكير فلسفي حقيقي خارج المسار اليوناني- العربي - الأوروبي عبر نصوص الحكمة والتأمل والتفكير الأخلاقي التي لا تخلو منها ثقافة إنسانية كبرى، أم أن الفلسفة كما كان يقول هايدغر تتحدث بلغة الوجود وتعتمد المفهوم والبرهان أداةً مميزة؟
سؤال نعود إليه لاحقاً.
*أكاديمي موريتاني