إعلان روسيا الانسحاب من معاهدتين لحظر الأسلحة النووية والتقليدية، فصلٌ جديدٌ في سباق التسلح الآخذ في التصاعد منذ نشوب الحرب في أوكرانيا، وهو مرشح لمزيد من التوسع في ظل الحرب الأخرى الدائرة في قطاع غزة. وقد وقَّع الرئيس فلاديمير بوتين يوم الثالث من شهر نوفمبر الجاري قانوناً أقَّره مجلس الدوما (البرلمان الروسي). وأعلنت الخارجية الروسية بعد أربعة أيام الانسحابَ رسمياً من معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا. خطوتان كانتا مُتوقعتين في ضوء التغيّر الجذري في العلاقات الروسية الغربية خلال العامين الأخيرين. وقد أُبرمت المعاهدتان في عامي 1990 و1996 في أجواء تصالحٍ انقلب فصار عداءً وتقاربٍ تحول إلى تباعد آخذة هوته في الازدياد. وقد اتخذ كلُ من الطرفين إجراءاتٍ جعلت المعاهدتين بلا جدوى، وسبقهما إعلان موسكو في فبراير الماضي تعليق مشاركتها في معاهدة «ستارت» الثانية لعام 2010 التي تهدف إلى خفض هذا التسلح عن طريق آليات للرقابة المتبادلة.
والمهم أنه قبل هذا كله، كان معهد ستوكهولم لأبحاث السلام «سيبري» قد توقع استئناف سباق التسلح النووي بمعدلاتٍ متفاوتة، وعودةَ ترسانة الأسلحة النووية للارتفاع بعد 32 عاماً من الانخفاض الطفيف في إجمالي عدد الرؤوس الحربية، والتي قُدرت في نهاية عام 2021 بنحو 12 ألفاً وسبعمئة رأس نووي في أنحاء العالم كله، تملك منها روسيا والولايات المتحدة نسبة تناهز الـ90 في المئة، مما يعني أن المسؤولية عن ازدياد سباق التسلح مشتركة، ولا يمكن تحميلها لأي طرف دون الآخر.
لكن ما يتسارع فعلاً الآن، وبمعدلات أعلى بطبيعة الحال، هو سباق التسلح التقليدي بعد أن التحقت به دول لم تكن طرفاً فيه أصلاً، مثل ألمانيا واليابان. والارتباط بين سباق التسلح التقليدي والنووي وثيق للغاية. فالرؤوس النووية تُحمَّل على صواريخ باليستية يمكنها أن تحمل أي نوع من القذائف التقليدية. كما أن هناك طائرات يمكنها أن تحمل صواريخ تقليدية ونووية في آن معاً، مثل القاذفات الأميركية من طراز «B-21» التي بُدئ في إنتاج ست أخرى منها في آخر عام 2022، في إطار خطة للتوسع في امتلاك هذه الطائرات القاذفة.
كما بدأت واشنطن وموسكو في تفعيل برامج موجودة لديها أصلاً لتحديث الرؤوس النووية وأنظمة إطلاقها ومنشآت إنتاجها، لكن لا يُعرف بَعد المدى الذي بلغه كل من الجانبين في هذا الاتجاه بعد وقف العمل بمعاهدة «ستارت». ولدى الدول السبع الكبرى الأخرى التي تملك أسلحة نووية (بريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية) برامج مماثلة، لكن معظمها قد تكون أقل جاهزية، لتطوير منظوماتها وزيادة المخزون في ترساناتها أو تحديثه، ربما باستثناء كوريا الشمالية.
والحال أن منظومة القوانين التي أسهمت في الحد من سباق التسلح النووي، وأدت إلى خفض إجمالي عدد الرؤوس النووية في العالم بشكل طفيف، تنهار الآن في الوقت الذي تزداد الأخطار التي تُهدِّد العالَمَ، ولهذا تشتد الحاجة إلى العقل والعقلاء، ومن ثم إلى الدول التي تتسم سياساتُها بالحكمة والرُشد وتملك خبرات متراكمة في العمل من أجل الحوار ومد الجسور.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية