عام 1943 كتب الصحفي والتر ليبمان يقول: «لقد أظهرت تجربتنا منذ تأسيس الجمهورية أن الانقسام الداخلي بشأن العلاقات الخارجية هو النتيجة الظاهرة والمرئية لسياسة خارجية مفلسة، وليس سببها».
ليبمان كان يقصد بكلمة «مفلسة» سياسة خارجية ذات أهداف استراتيجية تتجاوز إمكانياتها العسكرية والدبلوماسية. واليوم، يتردد صدى فكرة ليبمان بقوة في وقت يقاوم فيه جمهوريو مجلس النواب طلب البيت الأبيض تقديم حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا. إذ يذهب الرأي السائد في واشنطن إلى أن رفض الحزب الجمهوري يتسبب في مشاكل لاستراتيجية الولايات المتحدة الخاصة بأوكرانيا، والحال أنه أيضاً نتيجة لها بالقدر نفسه على الأقل.
هذه المشاكل كُشف عنها الأسبوع الماضي في تصريحات لفاليري إيه. زالوزني، وهو الجنرال الأعلى رتبة في أوكرانيا، في مقابلة مع مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية. تصريحات قال فيها إن هجوم أوكرانيا المضاد، الذي علّق عليه الغرب آمالاً كبيرة واستثمر فيه مليارات الدولارات على التسلح، من غير المرجح أن يحقق اختراقاً حاسماً: «فتماماً على غرار الحرب العالمية الأولى، وصلنا إلى مستوى من التكنولوجيا يضعنا في وضع يتّسم بالجمود ويستحيل فيه تحقيق تقدم».
والواقع، إنْ كان هذا متوقعاً، فقبل نحو عام من اليوم، حينما حقّقت أوكرانيا زخماً على الأرض - في خاركيف وخيرسون - اقترح الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية آنذاك، تسويةً للحرب عبر المفاوضات. وعلى غرار زالوزني، عقد ميلي تشبيهاً مع الحرب العالمية الأولى، مشيراً إلى أنه اتضح في وقت مبكر من تلك الحرب أنه «لم يعد من الممكن الفوز فيها عسكرياً».
والواقع أنه من الوارد أن المفاوضات كانت في تلك المرحلة غير ممكنة - إن الروس كانوا سيرفضون أي محادثات، وإنه لم يكن من الممكن ثني الأوكرانيين عن شن حملة حاسمة لاستعادة مزيد من أراضيهم. ولكن علناً على الأقل، لم تبذل إدارة بايدن أي جهد في محاولة ذلك. وبعد أن قوبلت تصريحات ميلي برفض قاطع، التزم البيت الأبيض بدعم الهجوم الأوكراني المضاد، مهما كلف ذلك.
وكما أشار زالوزني على نحو دبلوماسي، فإن الإدارة الأميركية لم تكن تتصرف دائماً على نحو حاسم. إذ قال لمجلة «ذي إيكونوميست» إن الصواريخ بعيدة المدى والدبابات «كانت مهمة جداً بالنسبة لنا العام الماضي، ولكنها لم تصل إلا هذا العام»، وهو ما سهّل على الروس إعادة رصّ صفوفهم وتحصين مواقعهم.
وسواء كان ذلك يعزى إلى الجمود البيروقراطي أو إلى جهود الرئيس بايدن لإدارة مخاطر التصعيد، فإن النتيجة هي نفسها: فاليوم، تجد أوكرانيا نفسها في وضع أسوأ مما كانت عليه في نوفمبر الماضي، ذلك أن جنودها منهكون ومستنزفون، ومخزونها من الأسلحة بدأ يتناقص، والرأي العام الغربي أضحى أكثر انقساماً بشأن تقديم مزيد من الدعم.
أعضاء الكونجرس «الجمهوريون» الذين صوّتوا بـ «لا» على مشاريع قوانين تتعلق بتقديم مساعدات لأوكرانيا - صفوفهم المتنامية باتت تشمل الآن رئيس مجلس النواب مايك جونسون (الجمهوري عن ولاية لوس أنجلوس) - يتعرضون لانتقادات شديدة وواسعة بين نخبة السياسة الخارجية في واشنطن. وباتوا يُصوَّرون، في أسوأ الأحوال، على أنهم مستبدون يرغبون في فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي أحسنها، كانعزاليين لا يفهمون دور الولايات المتحدة التاريخي في العالم.
والأكيد أن بعض «الجمهوريين» المتشككين في جدوى تقديم المساعدات لأوكرانيا يندرجون ضمن هذه الفئات، غير أن آخرين لديهم مخاوف قوية بشأن إمكانية نجاح الاستراتيجية الأميركية. والتصويت على المساعدات هو إحدى نقاط التأثير القليلة التي يملكها الكونجرس على السياسة الخارجية للإدارة الأميركية. وفي هذا الصدد، تشدّد رسالة وجّهها مجموعة من «الجمهوريين» في مجلس النواب إلى إدارة بايدن على أنه قبل موافقة الكونجرس على مزيد من التمويل، «ينبغي أن نفهم الهدف النهائي ومعايير الخروج» - وهو ما يُعد طلباً في محله بكل تأكيد.
هجوم أوكرانيا المضاد كان من المفترض أن يواصل الدعم السياسي لكييف، عبر إثبات قدرتها على استعادة الأراضي التي فقدتها. ولكن ربما يجدر بأنصار أوكرانيا الآن تقديم حجة عكسية: أن أوكرانيا لا تستعيد مناطق كبيرة حالياً، وأن هناك حاجة لمساعدات غير محدودة لمنع هزيمة كارثية.
والأكيد أن نافذة التوصل لتسوية متفاوض بشأنها لصالح أوكرانيا – إن كانت هناك فرصة أصلا - قد أُغلقت، إذ ترى روسيا ساحة معركة في طريق مسدود تكنولوجياً تتمتع فيها بميزة طويلة الأمد من حيث القوة البشرية. والآن يتعين على أوكرانيا الصبر والصمود. ولا شك أنه ينبغي على الولايات المتحدة ألا تعترف أبداً بغزو بوتين غير القانوني، ولكنها قد تحتاج للانتقال من الحلم بالنصر إلى الاستعداد للعيش في حالة من الجمود على الميدان. وإذا كان الجمود في الحرب العالمية الأولى قد كُسر بدخول الولايات المتحدة كمقاتل مباشر ضد ألمانيا، فإنه ليست هناك عملياً أي رغبة لدى الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع روسيا. والأكيد أن نصراً روسياً في أوكرانيا سيشكّل ضربة فظيعة لمصالح الولايات المتحدة، ولكنها ليست فظيعة بما يكفي للمخاطرة بحرب نووية.
ويمكن القول إن طموحات مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية فيما يتصل بهزيمة روسيا، مقارنة مع جهد الاستنزاف الذي تطوّر على الأرض بدلاً من ذلك، تعكس إفلاساً استراتيجياً كلاسيكياً. ولو أوضحت الإدارةُ الأميركية نهايةً قابلةً للتحقيق وخطةً لتحقيقها، لربما كانت مقاومة الكونجرس لمساعدات لأوكرانيا ستتوقف.
والواقع أن معظم أعضاء الكونجرس ينظرون إلى روسيا باعتبارها خصماً للولايات المتحدة ويدركون أهمية أوكرانيا مستقلة. وهي رؤية مشتركة يفترض أن يكون من الممكن حشد أغلبية في الكونجرس حولها، ولكن مع اقتراب بدء العد العكسي لنهاية الهجوم المضاد، سيتعين على أنصار أوكرانيا إعادة النظر في مقاربتهم السياسية. ذلك أنه لم يعد من المجدي السخرية من المتشككين. فهؤلاء ليسوا المشكلة، بل الاستراتيجية هي المشكلة. وربما تساعد التجاذباتُ في الكونجرس على صياغة استراتيجية أكثر استدامة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سيندكيشن»