رغم مظاهر القبح التي تهجم على النّاس على حين غِرّة، ورغم روائح الشر التي تُلحُّ على أن تزكم أذواقهم السّليمة، يتجلّى الجمالُ حاجة سيكولوجية، وملاذاً قويّاً من تبعات القُبْح المسْتشْري، على النّفس البشرية، إحباطاتٍ وحزناً واكتئاباً. وإنّ الفلسفة القرآنية تجعل الجمال أحد موجودات العالم، وضرباً من الحضور فيه، ومطلباً من مطالب الواقع، أولَمْ يكف بربّنا، وهو الجميل الذي يحب الجمال، أنّه على ذلك شهيد؟
في سياق حديث نبوي مُوجّه إلى صحابي ظنّ الكبرَ في اختياره أفضل اللّباس، نبّه الرسول الأكرم أن حسن اختيار اللّباس من الجمال، ثمّ حلّق به بأجنحة الجمال حين أعلن أن الله هو الجمال ذاته، وأنه سبحانه يُحب الجمال، وشرح له خصلتي الكبر القبيحتين، دفْعُ الحق وعدمُ قبوله، واحتقارُ الناس وازدراؤهم، فعلّمه الجمال المادي والمعنوي، في مقابل القبح النّفسي والأخلاقي.
يقودنا هذا الأمر إلى أهمية العناية بالجمال، حتى لا يصبح القبح مهيمناً على الهيئات والنّفوس والأفكار، وقديماً راهن مفكر كبير على أن المدينة التي تُعلّم بنيها حبّ الزهور فإن ناشئتها تنشأ وهي تقدّر قيمة الجمال، فلا يفوح من فيِها إلا الحسن من القول. ولا يصدر عنها إلّا المعروف من الفعل، ولا تتزيا إلا بالجميل من الثّوب، ولا تُشنّف أسماعها إلا بالحسن من الأصوات.
لا جرم أن الفلسفة القرآنية حرصت على التّنويه بمظاهر الجمال في الطّبيعة بكل أجناسها وأنواعها، حيث جعلت الجمال الطبيعي فرصة للإنسان للاستمتاع ببهجة الألوان، وزينة الأرض، وبهاء الحيوانات، ترويحاً عن النفس، ودفعاً لسآمتها وملالها. كما حرصت الفلسفة القرآنية على التّنويه بالجمال الفني الذي تبدعه أنامل الإنسان أيضاً، سواء كان الجمال قولاً حسناً، كما تجلت مثلاً في حكمة لقمان وهو يوصي ابنه، أو صنعة فنّية كما نجد مثلاً في حال ملكة سبأ المشدوهة من قصر سليمان الممرّد من قوارير، كأثر فني خلَبَ منها اللّب. ولا ننس إشادة الرسول بمزامير داود، وحَثّه أصحابه على التّحلّي بحِلْية الجمال. ولم يجد القرآن غضاضة في وصايةِ المسلمين أن يصنعوا جمالهم في ذواتهم، كأثر فنّي، عندما حبب إليهم الطهارة وأطيب الرائحة، ورغّبهم في العناية بلباس الجمعة، وسمّاه زينة، حثّاً لهم على الالتفات إلى أثر الجمال في حياتهم، أسوة بأثر الجمال فيهم من فِعل الكون من حولهم.
لم تعدم الفلسفة القرآنية عناية بالجمالين الطبيعي والفني معاً، ولم يتأخر عليه الصلاة والسلام في لفت أصحابه إلى العناية بذلك، وإنّ في حديثه عليه السّلام عن جبل أحد، أنه جبل يحبّنا ونحبّه، تنبيهاً على رؤية الحُسن في سياق قُبح مُتوهَّم، إذ ارتبط جبل أحد في أذهان المسلمين بهزيمة نكراء، فأراد الرسول بجمال الحبّ أن يدرأ عن أصحابه قُبح التّداعي الذي قد يجعل من هذا الجبل البريء رمزاً للقبح. كما أراد القرآن بدعوة المسلمين إلى العودة إلى نفوسهم بحثاً عن سبب الهزيمة، انتصاراً لمبدأ «اعرف نفسك بنفسك»، أن يدرأ عنهم التّعلق بأي أثر خارجي مُحبِط، وفي هذا يتكامل الوحيان، انتصاراً للحسن والجمال.
إنها فلسفة قرآنية تُحيي الجمال في القلوب، وتمدّه بأسباب القوّة، استعداداً للبناء المتجدد. وإلا فإنّ النّفوس التي تزّاور عن الجمال، وتسكن إلى القُبح والشّر، قمينة أن تثّاقل إلى أرض العجز والوَهَن.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية