التجارة والعلم
أسهم الكسب المادي إسهامات كبرى في تحفيز العلم وفي ترويجه ونشره، فالمخترعات أصبحت سوقاً تجارية يكسب منها المخترع ماديًا بمثل مكتسباته المعنوية، وكل شركة تلتقط عقلاً مخترعاً فهو بالنسبة لها رأس مال تتلهف له وتبذل له كل المغريات وتسهل له كل العقبات، ومثل ذلك يجري في المعارف الإنسانية فالترجمات في هذا الزمن أصبحت تتجه للكسب من حيث تطلع دور النشر للحصول على ترجمات تغري سوق الكتاب ولذا تصطفي المواضيع والعناوين ذات البريق السوقي.
وينشط مترجمون يجدون فرصاً لكسبٍ ما عبر الترجمة، وقد يضر هذا الحماس بسبب الحرص على النص المطلوب في السوق مع إغفال شروط الجودة وشروط الحاجة العلمية الحقيقية للمادة المترجمة ولكنها تظل نوعاً من المثاقفة ولو بنصف مستوى، وقبلها فقد حدث في العالم العربي سوق رائجة لتحقيق الكتب وهذا لعب لعبة مادية تضمن للمحقق أن يتملك حقوق الكتاب الذي لم يك من تأليفه، وقد مات مؤلفه قبل زمن بعيد مما يجعل حقوق المؤلف ليست واردةً ويحل المحقق في تملك حقوق الكتاب ويشاركه الناشر في توافق مادي محدد، وتبع ذلك استسهال في التحقيق، لا يتماثل مع جهود المحققين الكبار الذين أنجزوا أعمالًا كبرى بإتقان رفيع كما هي أيضاً حال المترجمين الكبار، وهؤلاء معاً يشترطون على أنفسهم إتقان الاختيار وإتقان العمل.
ولو تلمسنا الجانب الإيجابي للتجارة، فإنها قد خدمت العلم والمعرفة عبر جعلهما محوراً للرغبات البشرية في الكسب والربح، مهما اعتور ذلك من الغث الذي يملأ سوق الكتب، لكن ومع ذلك فإن كتاباً واحداً سميناً يعوّض عن مليون كتابٍ غث. وفي النهاية، فالتجارة دوماً هي لعبة بين بائعٍ ومشترٍ وبينهما وسطاء، والثراء الحق هو ثراء العقول وليس ثراء الجيوب، ويفنى المال والبشر ولكن الفكر وحده هو الذي لا يفنى بل يزداد حيويةً مع مرور الزمن.
*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض