التطرف أنواعُ عدة. كلُ تعصبٍ لأمرٍ ما في أي من مجالات الحياة ينطوي على تطرف. لكن أخطر أنواع التطرف هو ما قد ينتجُ عنه عنف وإرهاب.
كان التطرف، وما زال، أخطر أمراض البشرية. ما إن يوجد في مجتمعٍ حتى يُهدِّد استقراره وحياة أفراده. وتتطلب مواجهته كلفةً بشريةً وماديةً. ولهذا يحسُن السعي إلى إبعاد خطره، بدل انتظار وقوعه والشروع في مواجهته. الوقايةُ خيرٌ من العلاج قول مأثور في تراث البشر وثقافاتهم في كثير من البلدان. ومعناه أوسع بكثير من الحفاظ على صحة الإنسان. صحةُ المجتمع لا تقل أهمية، إن لم تزد، لأن ضمانها يتيح توفير ما يجعل الإنسان في خير.
وليست سهلةً بطبيعة الحال الوقاية من التطرف والعنف، لكنها ليست صعبة، في الوقت نفسه، في حال إدراك أهميتها والعمل من أجلها ووضع الخطط اللازمة لتحقيقها. والمهم، هنا، معرفة أن الاستعداد للتطرف يبدأ في مرحلةٍ مبكرةٍ من حياة الإنسان. ولهذا تعتمد عملية الوقاية منه على التنشئة الاجتماعية بهدف الحفاظ على عقول الأطفال وحمايتها مما قد يُوّجّهها في اتجاهاتٍ خاطئة، أو يُعطِّلها عن التفكير الحر غير المقيد بما يبدو كأنه أبيض ناصع أو ساطع برَّاق، وهو في حقيقته أسود حالك أو مُظلم مُدلهم.
اتفق كثير من المفكرين والفلاسفة، منذ فجر التاريخ المُدَّون، على أن الإنسان يولد صفحةً بيضاء. نجدُ هذه العبارة بنصها أو معناها في غير قليل من الأعمال الفكرية، كما في أقوال حكماء في عصورٍ مختلفة. ويُعتقدُ أن الفيلسوف الإغريقي أرسطو أول من طرحها، إذ قال ما معناه إن الإنسان يولد ولا شيء في عقله، وإنه يكتسب قيمه واتجاهاته من البيئة التي ينشأ فيها.
وهذا هو ما ذهب إلى مثله عددُ معتبر من مفكري العصر الحديث، مثل جون لوك الذي يرى أن عقل الطفل ليس إلا صفحةً بيضاء حين يولد. ونجدُ هذا المعنى في العلم أيضاً، منذ أن توصل سيجموند فرويد إلى أن الطفل لا يكون خيراً ولا شريراً حين يولد. لكن دراساتٍ أحدث في علم النفس تُفيد بوجود شيء من الخير الفطري لدى البشر حين يولدون، وأن بعض الأطفال على الأقل يتطور لديهم حسُ يُمكِّنهم من التمييز بين الصواب والخطأ في سنٍ أصغر مما يُعتقد. وهذا تحديداً ما يتعينُ أن تهدف التنشئة الاجتماعية إلى الحفاظ عليه وتنميته، حتى لا يغشى السوادُ الصفحة البيضاء. وهذا دور الأسرة أولاً، ثم المدرسة التي تتحمل مسؤوليةً عظيمةً عن تكوين اتجاهات الطفل منذ عامه الأول فيها.
لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن التعليم الذي يهدف إلى تنمية القدرة على التفكير، وليس إلى توسيع الذاكرة، هو خيرُ وقايةٍ من التطرف والعنف، وغيرهما من الأمراض المجتمعية. فالعقل القادر على التفكير يستطيع التمييز بين الصواب والخطأ، ومقاومة محاولات حشوه بتفسيراتٍ وتأويلاتٍ فقهيةٍ تحترفُ جماعاتُ عدة ترويجها والإتجار بها.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية