فرنسا و«احتجاجات الصغار»!
لا حديث اليوم في وسائل الإعلام الدولية إلا حول ما يجري في فرنسا من اضطرابات، إثر مقتل الفتى «نائل» برصاص شرطي في ضواحي باريس قبل بضعة أيام من الآن. ففي بريطانيا، ركزت وسائل الإعلام على توجيهات وزارة الخارجية البريطانية بعدم السفر إلى باريس، في حين أن الأميركيين تناولوا الربطَ بما حدث مع جورج فلويد الذي أحدث قتله على يد أحد عناصر الشرطة موجةَ مظاهراتٍ عارمةً في الولايات المتحدة. أما في روسيا، فيتم الحديث عن «حرب أهلية» وتُوجَّه انتقادات للرئيس إيمانويل ماكرون.. إلخ.
ومن رأى بعينيه ما يجري في بعض المدن الفرنسية من اضطرابات، سيظن نفسه في ساحات تمثيل أفلام حروب هوليودية تصور في نفس الوقت، إذ شهدت أعمال العنف التي أُضرمت خلالها النيران في بعض المباني الرسمية والسيارات والحافلات، بالإضافة إلى نهب بعض المحال، استعمالَ كل وسائل الفر والكر المتوفرة.
والذي يثير انتباه المتتبعين لما يجري في فرنسا هو مشاركة فتية «صغار جداً»، بعض الموقوفين منهم بدأوا يخضعون للتحقيق، وقد تبيّن أنّ منهم تلامذة في المرحلة الثانوية، وآخرين تلامذة في معاهد مهنية، بينما يعمل بعضهم الآخر ندلاء في مطاعم ومقاهٍ، ولم يبلغوا سنّ الـ18 عاماً، والغالبية منهم ليس لديهم أيّ سجل إجرامي. وتتناقل وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد لما يقوم به هؤلاء الشبان الذين قال عنهم الرئيس ماكرون إن «بعضهم يطبّقون في الشارع ما يعيشونه في ألعاب الفيديو التي سمّمتهم».
ووجّه الرئيسُ الفرنسي أصابعَ الاتّهام بالخصوص إلى منصّتي سنابشات وتيك توك، معتبراً أنّ هاتين المنصّتين «تثيران كذلك شكلاً من أشكال محاكاة العنف، مما يؤدّي في صفوف الأصغر سناً إلى شكل من أشكال الخروج على الواقع».
والصحيح أن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا هذا الأسبوع ربما يمكن النظر إليها من منظور الانتفاضة وليس بوصفها مجرد أعمال شغب وتخريب. وشخصياً أكاد أتفق مع بعض المحللين السوسيولوجيين عندما يرون أن مصطلح «أعمال شغب» يقلّص هذا العنف إلى جنوح حضري بسيط، في حين أنه ينطوي على بعد سياسي لا يمكن إنكاره أو تجاوزه.
و«في سياق الفروقات الاجتماعية المتزايدة في البلاد.. هناك قصور في سياسة تحديث الأحياء الشعبية، وقد أنفقت فرنسا بين العامين 2004 و2020 مبلغ 12 مليار يورو على برنامج (سياسة المدينة) الهادف إلى تحديث الأحياء الشعبية وتحسين أوضاع سكانها، كما خصصت 12 مليار يورو إضافية لبرنامج ثانٍ ينَفَّذ حتى العام 2030.. لكن تُظهر الاحتجاجاتُ فشلاً في مجال «سياسة المدينة» وفي معالجة انعدام المساواة. كما تظهر هذه الاحتجاجات وطبيعة القوى الاجتماعية المحركة لها، انعدامَ الثقة داخل المجال السياسي العام في فرنسا، وهو انعدام يطال الجميع في البلاد وينذر بعواقب سلبية على اللحمة الاجتماعية وعلى المستقبل الاقتصادي والسياسي لفرنسا نفسها.
*أكاديمي مغربي