الفردانية.. بداية النهاية
عالم وردي جميل لا ينقصه أي من الاحتياجات والمأمولات التي توفر رغد الحياة، والكثير من العناية بـ«الأنا»! إن هذا الاتجاه، حول سعي الإنساني وجهوده في مسار البحث عن الحلول الجماعية، كثيراً ما غرق في الطريق المؤدية لنجاة الفرد فقط، في صورة مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَراحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منْهُ عضوٌ تداعى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى».. فهل يعبر الشعور الجمعي اليوم عن حالة من التراحم الجماعي أم أنه منشغل بعلاج حُمّى الفردية؟
عاشت المجتمعات الإنسانية تجمعاً واتحاداً في الفكر والمسعى، صانعةً «أقطاباً» متنوعة في انتماءاتها وأهدافها الكبرى، وهذا كله قبل أن تذوب تلك الشمعة بلهيب الفردانية العازف عن المشاركة في الأهداف الجمعية، والمتقوقع على الذات والكسب الشخصي والجري وراء غاية السعادة وارتشاف ملامحها دون الالتفات لحقيقة وجود الآخر.
ولعل الذي ساعد في تضخم الفردانية في الأوساط العربية دون غيرها، وعلى غير المعتاد، أن ذلك مثل رد فعل غير مباشر على الظروف السياسية المتقلبة التي عاشتها المنطقة، والأزمات الاقتصادية، بالإضافة لبعض الإحباط المتعلق بالوضع المعيشي، وتنامي معدلات الهجرة سعياً لتحقيق نجاح فردي وارتقاء معيشي. إن الانغماس في «لذة النزعة الفردانية» سيؤول بلا شك لتضاعف المظاهر الاجتماعية والانعكاسات الاقتصادية المؤلمة والقاسية، منتِجةً المزيداً من الفقر والتشرد والجوع، كما ستعمل على محق «الطبقة الوسطى» في المجتمعات بصورة غير مسبوقة!
وعلى مستوى التكوين المجتمعي، فلن تكتفي هذه النزعة الموحشة بتمزيق جسد الأسرة، وإلغاء ملامح الترابط الأسري والقبلي الذي كان أحد المواثيق الغليظة في المجتمعات، مما يعني مضاعفة التحديات وازدياد الأعباء على الدول والحكومات. وفي حين يخيل لأحدنا أن مثل هذه الظواهر والاتجاهات الفكرية وترجماتها السلوكية تقتصر على فئة محددة، وبالتالي فهي ذات أثر محدود، تتمدد اليوم ملامحُها بكيفية لا تؤثر على تكوين هذا الكوكب الاجتماعي الذي أفرز نماذج مترهلة ومفككة فحسب، بل تمتد لكبرى التحديات التي ترهق العقول القاطنة على هذا الكوكب، والتي يعد خطر التدهور البيئي أحدها. فالفردانية مغرقة في الاستهلاك اللامسؤول وفي تبديد الفائض عن الاستهلاك الضروري أو اللازم. وبما أن الفردانية متعلقة بالفرد، فهل يمكن الدفاع عنها كحرية شخصية؟
وكيف يمكن الإصغاء للطروحات التي تراها تحت بند «الحريات»، وبالتالي فإن لها ما لها من الأثر على الأمن الروحي والفكري والصحي والغذائي لكافة مخلوقات العالم. وبالإمعان في تفاصيل نسب الهدر المتعلق فقط بالطعام لعام 2019، نجد أن 17 بالمائة من إجمالي الإنتاج الغذائي العالمي مصيره الإتلاف والهدر، مع أن ملايين البشر يتطلعون لمضغ «حفنة أرز»! نجحت السياسات الحديثة والرسالة الإعلامية «المكثفة» في تشكيل صورة ثقافية متوارثة بين الأجيال، تطمح دائماً لتحقيق فردانيتها بمنأى عن العالم وضجيجه.
فقد رسخ هذا الإعلام وتلك السياسات صورَ الشباب الساعي لتحقيق ذاته، والذي تمت إحاطته بمادة إعلامية وإعلانية دسمة تمجد الفردَ وتعطيه دورَ البطولة باختلافه عن الكل، في الغاية والهدف وأسلوب الحياة، ممثلين نماذج «مخالفة» للنظام العام! إن النزعة «الفردانية» هي بداية النهاية لكل مستقبل خطط له الإنسان، ولا بد من نزعه بدل رتقه ونسج مظلة واسعة متينة من المشتركات الإنسانية وتعزيزها بكل ما أوتي الإنسان من قوة، لا سيما الثوابت التي رسخها الإسلام والمتجلية في صور التعاون والتراحم والإغاثة والتشاور وإعادة «دور العلماء» والفقهاء من خلال نقد السلوك المجتمعي، وإرشاده للبدايات المجدية التي تنقذ أبناءنا من التطرف والتفسير المنحرف للنص الشرعي، وذلك من خلال جسر ثابت من الثقافة الرصينة والفهم المتزن والنظرة المعتدلة.. إلى جانب السياسات والقوانين الحيوية التي تنقل أفراد المجتمعات من عزلة الفردانية لسعة الجمعية الرؤوم.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة