أزمة البلقان واستقرار أوروبا
كان الأوروبيون يظنون أن وقت الحروب والنزاعات قد ولَّى في القارة العجوز ولم يعد لها مكان بعد أن دخلت محددات جديدة في النظام الأوروبي والعالمي، وبعد بروز حلف شمال الأطلسي كمؤسسة عسكرية ردعية، ودخول دول أوروبا الشرقية إلى عضوية المؤسسات الأوروبية وانتشار الانفتاح السياسي والاقتصادي في مجتمعاتها، وظهور نخب مدنية وعسكرية جديدة في مناصب المسؤولية لا تريد أن تعيش ما عاشه آباؤها من أزمات كما وقع في الجمهورية الفدرالية ليوغسلافيا السابقة. فهذه النخب تستحضر في أذهانها أشخاصاً مثل سلوبودان ميلوسوفيتش الزعيم الصربي الذي تولى السلطةَ لسنوات وقاد حملات تطهير عرقي واسعة في دول البلقان، انتهت بإطاحته من السلطة وتسليمه إلى المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة (مقرها لاهاي). وهم يستحضرون أيضاً السنوات العجاف الثلاث من الحرب الشاملة في البوسنة، حيث خلّف حصار سراييفو (1992-1995) الذي قاده ميلوسوفيتش وأسفر عن مقتل أكثر من 8 آلاف مسلم في مجزرة في سربرينيتشا وحدها. وفي سنة 1998 أعمل الزعيم الصربي آلته العسكرية ضد الألبان في إقليم كوسوفو، بعد أن شكل ائتلافاً مع القوميين المتشددين واستند إلى دعم الجيش والشرطة لتشديد قبضته.. وقُتل بين عامي 1998 و1999 حوالي 10 آلاف من الألبان، وأجبر 800 ألف منهم على النزوح من كوسوفو إلى كل من ألبانيا ومقدونيا.
ومع ما يجري اليوم بين روسيا وأوكرانيا، بدأ الخوف ينتاب الأوروبيين من اشتعال بؤرة صراع أخرى في البلقان مع تصاعد التوتر شمال كوسوفو بين الشرطة والأقلية الصربية، بعد محاولة قوات الأمن في 26 مايو المنصرم استعادة مبانٍ رسمية عقب الانتخابات المحلية التي جرت في 23 أبريل الماضي وفاز فيها ممثلو ألبان كوسوفو.
ويعيش في كوسوفو نحو 120 ألف صربي، مقابل حوالي 1,7 مليون من أصول ألبانية، وينتشر نحو ثلث السكان الصرب في شمال كوسوفو، وينظر إليهم في الغالب على أنهم موالون لبلغراد.
ولم تعترف صربيا إلى يومنا هذا باستقلال كوسوفو، الإقليم الصربي السابق، ونتذكر حقبة العشرية الدامية في البلقان بين الصرب والألبان و«الناتو»، والتي أدت في النهاية إلى تفكك دولة يوغوسلافيا الاتحادية السابقة.
وقد توصل ألبان وصرب كوسوفو، في عام 2013، إلى اتفاق ينص على إنشاء اتحاد من عشر بلديات، من ضمنها البلديات الأربعة التي تقيم فيها الأقلية الصربية.
الاتفاق بقي حبراً على ورق، حيث ظلت الخلافات طاغية على العلاقة بين بلغراد وبريشتينا والمخاوف مسيطرةً على العديد من ألبان كوسوفو بشأن إنشاء حكومة موازية، في البلديات ذات الوجود الصربي، تسيطر عليها بلغراد.
وهناك مخاوف من نشوب صراع كبير في البلقان، رغم الدعوات المتتالية من جانب القوى العظمى لإيقاف التوتر، ولا يبدو أن أوروبا في وراد السماح بحدوث صراع دموي آخر في القارة، لأن تداعياته الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية ستخلط العديد من الأوراق وستكون آثارها قاسيةً على الجميع.
*أكاديمي مغربي