أميركا وأوروبا.. أفق التعامل مع الفضاء السيبراني
لا يمكن إنكار أن من الأمور اللافتة للنظر هذا الأسبوع كان تحصيل أوروبا 1.2 مليار دولار هي قيمة الغرامة التي تم فرضها على «ميتا»، شركة التكنولوجيا الأميركية العملاقة المالكة لفيسبوك. لكن المبلغ لا يعدو أن يكون تافهاً بالنسبة لميتا، وقيمته في الرسالة التي يوجهها، وضع قواعد قابلة للتنفيذ في الفضاء السيبراني: للإنترنت ولوسائل التواصل الاجتماعي ولمنصات مثل «فيسبوك»، ولتطبيقات التراسل، وأيضاً لتنظيم الذكاء الاصطناعي، التحدي السياسي الأحدث.
وقضية هذا الأسبوع تتعلق بالخصوصية: فقد قضى المكتب الأوروبي لحماية البيانات بأن موقع «فيسبوك» تقاعس عن ضمان أنه لن يتم إطلاع وكالات المخابرات الأميركية على المحتوى الخاص بالمستخدمين الأوروبيين عند نقله إلى الولايات المتحدة. لكن هذه ليست سوى أحدث إشارة صادرة عن الاتحاد الذي يضم 27 دولة عن تصميم متزايد على أخذ زمام القيادة في تعزيز تنظيم الفضاء السيبراني.
والهدف هو ألا تكون أدوات تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين سبباً في انتهاك خصوصية المستخدمين وسلامتهم والحقوق الفردية الأخرى، أو استخدامها لتقويض الانتخابات أو المؤسسات الديمقراطية أو تقويض الثقة المجتمعية والاجتماعية. ويركز الاتحاد الأوروبي أولاً على تنظيف بيته: ويشكل الاتحاد في مجموعه ثاني أكبر اقتصاد في العالم. لكن صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي يعرفون أن نطاق الأنشطة السيبرانية وتعقدها، يعني أن التنظيم الناجح، وفي الحقيقة مستقبل الإنترنت ذاته، يتوقف على القوتين الاقتصاديتين الكبيرتين الأخريين، الصين وأميركا.
ومن غير المرجح على الإطلاق أن تشارك الصين في أي جهود لوضع قواعد دولية. وبالنسبة للرئيس الصيني شي جين بينغ، فالتكنولوجيا هدفها السيطرة وليس تمكين الفرد. وبدلاً من احتضان الروح الأولية للإنترنت – كوسيلة عملية حقاً – أقامت الصين «جدار حماية عظيم» لمنع المواقع الأجنبية التي تعترض عليها، وتدافع عن نموذج تسيطر فيه الدول منفردة على شبكات الإنترنت الخاصة بها. وعليه، فإن المفتاح للحفاظ على المنافع العالمية للإنترنت، مع كبح تجاوزاته أيضاً، قد يكمن في جهود أوروبا للتوصل إلى هدف مشترك مع الولايات المتحدة. ويوافق مشرعون أميركيون من الحزبين على كثير من المخاوف التي يعبر عنها الاتحاد الأوروبي فيما يخص الفضاء السيبراني.
لكن لا يوجد، إلى الآن على الأقل، سوى إشارة ضئيلة على وجود نهج غربي مشترك. وقدمت الغرامة على فيسبوك نافذة للوقوف على أسباب ذلك. جانب من هذه الأسباب الثقافات السياسية المختلفة. فوثيقة الحقوق الصادرة عن الاتحاد الأوروبي تحمي خصوصية المواطنين بشكل صريح. ولا يوجد في الولايات المتحدة ما يماثلها دستورياً، ويضع تأكيد التعديل الأول على حقوق حرية التعبير لمنصات الإنترنت ومستخدميها.
كذلك تحتفظ شركات تكنولوجيا عملاقة أخرى مقرها الولايات المتحدة بقدر هائل من المحتوى الأوروبي، ويضع مفاوضون من الاتحاد الأوروبي وأميركيون اللمسات الأخيرة في اتفاقية خاصة بالبيانات معلقة منذ فترة طويلة، تهدف إلى تلبية مخاوف الأوروبيين بشأن تبادل المعلومات الاستخباراتية. ولكن الخلاف الأكثر جوهرية يتمحور حول كيفية تنظيم شركات التكنولوجيا.
وهناك مجالات للتوافق. ففرضت كل من السلطات الأوروبية والأميركية عقوبات على الشركات التابعة لهم لإساءة استغلال البيانات الشخصية أو التقاعس عن تأمينها. لكن ظهرت فجوة متسعة بخصوص محتوى الإنترنت. وتسعى واشنطن لضمان أن تقوم شركات التكنولوجيا بتنظيم هذا المحتوى بنفسها بشكل مناسب. ومن ناحية أخرى، بدأ الاتحاد الأوروبي في العام الماضي، تطبيق قانون الخدمات الرقمية الذي يلزم نحو 24 شركة كبيرة، مثل فيسبوك وتويتر وعلي بابا وتيك توك بتقديم تقرير سنوي حول كيفية مكافحة المعلومات المضللة والتهديدات لسلامة الأطفال أو النساء والتلاعب في الانتخابات وغيرها من انتهاكات.
سيتعين كذلك إطلاع المراقبين الأوروبيين على خوارزميات تحدد أي نوع من المحتوى يرسل إلى أي نوع من المستخدمين. وستبدو الغرامة التي دفعتها فيسبوك ضئيلة مقارنة بالعقوبة القصوى التي تبلغ 6 بالمئة من الإيرادات العالمية للشركة. بينما سيتطلب قياس تأثير القواعد الجديدة بعض الوقت- فإن الغرامة التي فرضت على فيسبوك هذا الأسبوع نتجت عن شكوى قدمت قبل عشر سنوات- فإن الاتحاد الأوروبي يؤكد جديته في تطبيق هذه القواعد.
فبعد فترة قصيرة من بدء تطبيق التشريع في العام الماضي، انتقدت فيرا جوروفا، مسؤولة القيم والشفافية في المفوضية الأوروبية، إيلون ماسك، مالك تويتر، بسبب ما ورد عن قيامه بمنع عدد من الصحفيين الذين يغطون موضوعات التكنولوجيا من استخدام المنصة. وكتبت على حسابها على تويتر محذرة من أن «قانون الخدمات الرقمية يؤكد حرية الإعلام والحقوق الأساسية.
وهناك خطوط حمراء وعقوبات، عاجلاً». ولا يمكن التفكير في استجابة مماثلة من السلطات الأميركية، في الوقت الحالي على الأقل. لكن الذكاء الاصطناعي باعتباره مصدر القلق التكنولوجي الأحدث للجانبين الذي دفع الولايات المتحدة وأوروبا للتحرك في اتجاه تصور مشترك. فواشنطن والاتحاد الأوروبي عبرا عن مخاوفهما بمصطلحات متشابهة بشكل واضح، لكن كان الخلاف السياسي المألوف واضح كذلك. واتخذت وثيقة حقوق الذكاء الاصطناعي التي اقترحتها إدارة بايدن العام الماضي شكل توجيهات سياسية طوعية.
وسيفرض قانون الذكاء الاصطناعي الخاص بالاتحاد الأوروبي مجموعة من الشروط الواضحة على شركات التكنولوجيا التي تقدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتعتزم حظر «التطبيقات اللاشعورية أو المتلاعبة عن قصد، والتي تستغل أوجه الضعف أو التي تُستخدم أغراض التهديف الاجتماعي». لكن، هناك درس تعلمته الحكومات من خلال جهودها لتنظيم الإنترنت قد يشجع على المزيد من التعاون عبر الأطلسي. هو أنه قد فات الأوان لتنظيمها.
*صحفي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»