التحولات المحيطة بالأخلاق
تستمر عجلة الحياة في الدوران، ترافقها قوة التغيير كـ «سنة كونية مستدامة» طالت الوجودَ كلَّه، حتى لامست الأمور المعنوية، وتوجُّهَ الإنسان وشعورَه تجاه الأشياء. وفي التركيز على المعنوي قبل الحسي المتوقع بطلاقة تعرضه للتغير المستمر، نجد أن الثقافة ومستوى الوعي الإنساني وطريقة التفكير باتت تتشكل بإصغاء تام لتفاصيل المعطيات التاريخية والثقافية والاجتماعية.
ومن المعلوم أن الشغف بالتطور والتقدم حلم يرافق المجتمعات الإنسانية كافة، ومن ذلك تعمل على استثمار أدوات التغيير والتبديل لجعل كل ما لديها من «رأسمال» مادي ومعنوي، يبدو أفضل وأكثر جدوى. وهنا لا بد من الاستفسار عن تغيرات القيم وتبدلات معايير الأخلاق، فهل هي ذات جدوى في جدتها، أم أن كل طارئ يلامسها يغير من هويتها فيفقدها قيمتها الحقيقية؟
إن الذات البشرية التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين، متفقين جميعاً على ضرورة انتقالها من التقوقع الفردي إلى سعة الهوية الاجتماعية المندمجة المنتجة للتعايش والتطوير والنهوض الحقيقي، وذلك في ظل ارتباط بشري بمظلة عليا من القواعد الأخلاقية المبنية على المشتركات التي يجمع عليها الكل.. عانت من مستجدات لم تكن في الحسبان، ففي حين اتكأ الإنسان في اعتماده الأخلاقي على تعاليم النص التشريعي الديني ومصفوفة القوانين المنظمة الوضعية، فإنه بات يواجه تدهوراً ملحوظاً في منظومة القيم، في هيئة إقصائية لكل الآمال المبنية على حلم أفلاطون ومدينته الفاضلة، لتتحول الاتجاهات نحو شح قيمي، وتخبط بين التوجه النفعي والأخلاقي، مع ازدياد في وتيرة العنف والكراهية.
وفي هذا السياق، تُطرح مفارقات عدة، وتعرض تفاصيل أُشبعت أجزاؤها وتداعياتها وأسبابها، وتبقى الحاجة قائمة للتعرف إلى مصير المشترك الأخلاقي والنظام القيمي، في ظل تلك المعطيات «الثقيلة» على كاهل الإنسان وملامح «عقله الأخلاقي». وحتى نكون منصفين في تناول التحديات الإنسانية عموماً، والمتعلقة بالتحول القيمي والأخلاقي بشكل خاص، لا بد أن نعترف بأن تضخم حجم هذه المشكلة ترافق والعديد من التطورات الحاصلة على أدوات ووسائل الفهم والتوعية ونشر الثقافة الأخلاقية، فباتت تشكل فرصة واسعة لاستبدال الثغرات والنقاط السوداء على خريطة الوعي الإنساني بالمكنون القيمي.
وهذا بالإضافة إلى أن اعتبار التجارب الإنسانية السابقة محطة وقوف يؤدي للاستزادة بكافة السيناريوهات المحتملة، مما يعني استدراك الخطى الخاطئة وتحويلها لجسور عبور نحو المحطة الأخلاقية الكبرى. إن تحويل تحديات التغير الأخلاقي في المجتمع لفرص تغتنم، وبخاصة في نطاق بعيد كل البعد عن الواقع التنظيري المحدود، يكمن في بناء قيم أفراد المجتمع، ورغم أنها ليست بالمهمة الهينة، فإنها ليست بالمستحيلة في ظل تسخير العقل كنعمة ربانية وهبها الله للإنسان.
وهنا نكون قد وصلنا لعقدة الحكاية في التحولات القيمية، وأدركنا أنها تؤول لولادة الفرص، أو لتكاثر التحديات بقرار من الإرادة الإنسانية وحدها، فأخلاق الإنسان «رأسماله» المعنوي ومرآة الواقع التي تؤدي لانعكاس بهي كما يريد، والأدوات الحديثة ومعطيات التقانة وتشعباتها اللامحدودة هي الأخرى بين يديه، يستطيع أن يوجهها ويسخرها في المجال الأصوب، وذلك من خلال اعتماد الوسائل كافة وتطويعها في نشر الأسس الأخلاقية الكبرى، وتوسيع مساحة الوعي بانعكاسات البيئية الأخلاقية ونقيضها، وتسليط الضوء على الاستراتيجية الأقرب للواقع، ابتداءً من الفرد فالعائلة فالمجتمع فالعالم العريض. لا سيما أن نتاجات الوجود القيمي الحقيقي هو أحد أطراف معادلة النهوض والازدهار والتصدي للتحديات، بل وتحقيق الأمن والسلام في شتى بقاع الأرض.. إذ ترسيخ معاني التسامح والتراحم، والإصغاء والحوار.. مما يصنع الإبداع من فرادة التنوع والمسؤولية الجمعية.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة