المثقفون.. ودورهم في السياسة
وجدت دراسةٌ رصينة للزعماء الأميركيين، قام بها عالم النفس دين كيث سايمونتون، أن السياسيين الذين حصلوا على تعليم نظامي مبهر يفشلون عموماً في تحقيق شهرة، بينما يتفوّق منافسوهم غير الأكاديميين. وربما لهذا السبب هيمن «المحافظون»، الذين وصفهم فيلسوف القرن الـ19 (وعضو البرلمان الليبرالي) جون ستيوارت ميل بـ«الحزب الغبي»، على المشهد السياسي البريطاني لأكثر من قرن. كثيراً ما يُعتبر المثقفون في السياسة أشخاصاً غير عمليين ومحدودي الأداء.
وعلى سبيل المثال، فإن أدلاي ستيفنسون، المرشح «الديمقراطي» للانتخابات الرئاسية في أميركا مرتين، هُزم أمام دوايت آيزنهاور الذي كان عاجزاً عن التحدث بفصاحة في الخمسينيات. وإذا كان الرئيس وودرو ويلسون خريج جامعة برينستون قد دمّر تسوية السلام بعد الحرب العالمية الأولى، فإن الرئيس هاري ترومان المنقطع عن الدراسة أنشأ نظاماً عالمياً جديداً بعد 1945.
وفي المملكة المتحدة، عانى وينستون تشرشل من صعوبات جمة في المدرسة ولم يحصل على شهادة جامعية، كما أن المستوى التعليمي للأب المؤسس لنظام الرعاية الاجتماعية ديفيد لويد جورج كان متواضعاً. لكن وفاة وزير الخزانة في حكومة مارغريت تاتشر، نيغل لوسن، هذا الأسبوع، تذكرنا بأن المثقفين الشرسين الذين يملكون هدفاً، لديهم مكان في المشهد السياسي أيضاً.
كان لوسن العقل المحرك وراء أجندة الخصخصة التي اتبعتها تاتشر. وإلى جانب رئيسته في العمل، كان لوسون مهندس الاقتصاد البريطاني المعاصر. قد يقول قائل إن تاتشر كان لديها عقل قوي من الدرجة الثانية ومزاج من الدرجة الأولى، على الأقل لممارسة السلطة، وكانت لديها شجاعة هائلة لمواجهة أعداء أقوياء في الداخل والخارج.
لكنها كانت تحتاج لعقول مستقلة مثل عقل لوسن من أجل تطبيق سياساتها بعد عقود من التوافق الجماعي. وقد فهم مستشارها الذكي، وهو صحفي ومحرر سابق في صحافة الأعمال والاقتصاد، فن البيع والتسويق أيضاً. ولا شك أن بريطانيا ما بعد بريكسيت تحتاج إلى موجِّه مماثل.
البراغماتية والعقلانية أمران أساسيان من أجل إنجاز الأشياء، لكن من دون حس الاتجاه، كثيراً ما يكتفي السياسيون بتغييرات صغيرة وبسيطة أو يحاولون تحقيق كثير من الأشياء بشكل متزامن فيفشلون. والحق أن رئيس الوزراء ريشي سوناك وزعيم «حزب العمال»، كير ستارمر، تكنوقراطيان يعملان بجد وبارعان في حل المشكلات ويمثلان تحسناً كبيراً جداً بالمقارنة مع سلفيهما.. لكن هل يمتلكان «الرؤية»؟
إن المثقفين لديهم سمعة سيئة في بريطانيا اليوم. فمعلم تاتشر، كيث جوزيف، الذي تلقبه الصحافة بـ«الراهب المجنون»، لم يستطع ترجمة مبادئه إلى سياسة كوزير في حكومتها، في حين سمح المثقف المتخصص في الكلاسيكيات إينوك باول، الذي دافع عن خليط من السوق الحرة مع القومية البريطانية قبل تاتشر بوقت طويل، لعقله بالذهاب إلى استنتاجات متطرفة. هناك بالطبع نموذج ناجح آخر في السياسة، ألا وهو المدير الديناميكي والعملي الذي يعرف كيف ينجز الأشياء.
والمثال البارز هنا هو منافس تاتشر الأصغر سناً مايكل هيسلتاين الذي احتفل مؤخراً بعيد ميلاده التسعين. عسر القراءة الذي كان يعاني منه هيسلتاين في طفولته قضى على تعليمه النظامي ولكن لم يحرمه من مسار ناجح في الأعمال كناشر. وفي المكتب تحت قيادة تاتشر، استخدم هيسلتاين كل سلطات الحكومة لإنقاذ مدينة ليفربول وأرصفة لندن المهجورة من الإهمال خلال فترة بطالة جماعية وتقشف. وإليه تعود فكرة أبراج منطقة «كناري وورف» المالية.
كان لوسن يؤمن بتقليص الدولة، ولكن هيسلتاين كان يرغب في أن تنجز الحكومة مشاريع كبيرة على غرار فرنسا الديغولية. غير أن أكبر مشاريعه على الإطلاق، أي الإدماج الكامل للمملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي، أثبت أنه غير مقبول من قبل حزبه وبلاده.
ولكن في هذه الحقبة، حقبة ما بعد الوباء وما بعد الانهيار المالي، ينتمي المستقبل إلى السياسي الذي يستوعب بشكل أفضل التحدي المتمثل في تطبيق أهداف طموحة بخصوص انبعاثات الكربون الصفرية وفق خطوط عملية تقوّي الاقتصاد.
فنظام الرعاية الصحية الوطني الضخم «إن إتش إس» يحتاج لإصلاح في وقت يزداد فيه السكان شيخوخةً. كما أن هناك حاجة ملحة وعاجلة إلى أنظمة التقنين والتخطيط التي تنمّي الصناعات. في البيئة السياسية الحالية، كان ناشط طبيعي مثل هيسلتاين سيعرف كيف ينفض خمول الحكومة البريطانية ويحفز الدولة. غير أن هناك حاجة أيضاً إلى لوسون معاصر لمراقبة الفواتير المتضخمة والسماح للمبادرة الخاصة بحرية التحرك.
لفترة من الفترات، سخّرت تاتشر مواهب كلا الرجلين، بينما استعان روزفيلت وترومان في الولايات المتحدة بمفكرين عميقين ومديرين لتحقيق أهدافهما. إنه درس في التاريخ سيكون من مصلحة قادة بريطانيا استحضاره.
مارتن إيفنز*
*رئيس تحرير أسبوعية «ذا تايمز ليترري سابليمنت» البريطانية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج ىند سيندكيشن»