التنّمر الاستراتيجي بين الدول
يتنّمر الناس لأسباب مختلفة وكذلك الدول والمنظومات السياسية عبر التاريخ، وبالتالي إساءة استخدام مستمرة ومتعمدة للسلطة والقوة وميزان القوى في العلاقات مع الآخرين من خلال السلوك اللفظي أو المادي أو الاجتماعي المتكرر، والذي يهدف إلى التسبّب في ضرر مادي أو نفسي ومعنوي، يمكن أن يشمل فرداً أو مجموعةً أو دولةً، بينما يشعر الطرف الآخر بأنه غير قادر على منع حدوث ذلك.
وفي العادة لا يتم تعريف الحوادث الفردية والصراع أو المعارك بين طرفين متساويين في القوة والقدرة والإمكانيات على أنه تنّمر، حيث إن المتنّمرين يكونون أكبر وأقوى وأكثر عدوانيةً من أقرانهم، أو يفوقونهم من نواحٍ أخرى مثل التخطيط وحشد وتشجيع وخداع أو إقناع الآخرين ليكونوا جزءاً من التنّمر، أو ليصدوا الطرف الآخر عنه. ولا يبالي المتنّمرون بإيذاء أقرانهم وإلحاق الأذى النفسي أو العقلي أو الجسدي بهم، أو إخضاعهم أو جعلهم يميلون أو يتقبلون توجهاً أو سلوكاً معيناً يخدم أهدافهم ورغباتهم، وما قد يحدث بين الأفراد قد تكون له أبعاد على مستوى المجتمعات والدول كذلك.
لهذا فالتّنمر قد يكون سلوكاً استراتيجياً يهدف إلى الحصول على الهيمنة والمكاسب وتحقيق المصالح أو الحفاظ عليها، أو منع أو ردع أو إضعاف أو تخفيف أو تخريب مجالات التفوق ومصادر القوى للدول المنافسة.
ولا غرابة أن الأطفال الذين يساهمون في التنّمر في الغالب ماهرون في استراتيجيات الخداع والتضليل والتأثير على الآخرين، من حيث إنهم استخدموا استراتيجيات قسرية وكانوا أيضاً مهيمنين اجتماعياً، وينشأ الكثير منهم ربما ليتحول إلى قيادي بارع ومخطّط استراتيجي وطبعاً سياسي ورجل أعمال ناجح، وتأثيرهم على عالمنا اليوم واضح وجلي لمن يفكر في العيش في عالم مثالي.
فالأمم المتنّمرة لا تلتزم بالخطوط الحمراء في علاقتها مع الآخرين إذا ما كان هناك إضرار بمصالحها، ولا تعبأ بالتنديد بأفعالها السيئة والتهديدات والمقاطعات ولا تتراجع في نهاية المطاف، وقد ترسل مبعوثين لعقد اتفاقيات سلام من جهة، وتهاجم أهدافاً حيوية من جهة أخرى للدولة التي تعقد معها اجتماعات ومحادثات السلام، ودائماً ما تتشدق علناً بقيم بلادها وخلف الكواليس بقية العالم بالنسبة لهم هدف مشروع ولا تذعن لغير مبدأ القوة المساوية، أو ما قد ينال من كبريائها من خلال التأثير المضاد.
فالدول المتنّمرة تكون عازمةً على الدوام لإذلال البلدان التي تظهر التحدي لها، من أجل إجبارها على تبني سياسات وأجندات أو تصريحات، أو الدخول أو الخروج من تحالفات واتفاقيات وتوجهات قد تخدم الدول المتنمرة أو لا تخدمها، وبالتالي القيام بتحركات وإطلاق تصريحات استفزازية ويغلبها التهديد وإنْ كان غير مباشر، والتسويق في الداخل والخارج بأن ما يقومون به مبرّر أخلاقياً، وهي اختيارات تكتيكية تمس السيادة والاقتصاد والقيم الحضارية والأمن القومي لها، ويهدد في الوقت نفسه السلام الإقليمي أو العالمي، وبالتالي من ينتقدها قد لا يتمكن من الإفلات من العقاب، وتعمل جاهدةً على أن تكون الوحدة بين منافسيها هشةً للغاية بحيث لا تسمح بالعديد من مظاهر التضامن الرسمية أو السرية ضدها، وتعمل على أن يسير الآخرون في فلكها.
فالتنّمر الاستراتيجي باعتباره منظوراً تكميلياً متوازناً للقيادة الهدّامة والبلطجة السياسية التنظيمية في بيئات شديدة التنافسية والتغيّر المتسارع، ولذلك يُفسر سلوك التنّمر من قبل القائد في تلك الدول المتنّمرة على أنه شكل من أشكال السيادة التنظيمية، وممارسة مشروعة للتأثير في مواقف محددة تلمس تعويم العولمة في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة، وغضب الطبيعة والتطورات المهمة في التقنيات الناشئة التي أضحت أحد الأصول الاستراتيجية، وكذلك أحد بنود التنّمر الاستراتيجي في العلاقات الدولية. ومن المرجح أن تكون مجالات مثل أشباه الموصِّلات والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، والتسلّيح المتقدم والحرب غير المباشرة، بتسخير العلوم والتقنيات الحديثة المتقدمة للغاية كإحدى أهم ركائز ثقافة فرض التنّمر الاستراتيجي في ما هو قادم من سنوات.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات